على مرّ فصول الحرب الأهلية والحروب التي تخلّلتها، شكّلت قبرص، دائماً، ملاذاً لكثيرين من اللبنانيين. إلا أن «الهجمة» الحالية على الجارة المتوسطية تبدو هذه المرة مختلفة كلياً عن كل ما سبق. في الماضي، كانت الجزيرة جسر عبور لآلاف اللبنانيين نحو بلاد أخرى، ومقصداً استثمارياً للميسورين الطامحين بجنسيتها أو بالإقامة الأوروبية. بعد 17 تشرين 2019 وما تلاها وبخاصة انفجار المرفأ، صارت «الخيار المثالي» لكثير من العائلات اللبنانية التي أتتها محملةً بملايين الدولارات واستثمارات ضخمة في شتى القطاعات. ولكن، خلافاً للسنوات السابقة التي شهدت نمواً لافتاً في استثمارات اللبنانيين في الجزيرة طمعاً بالجنسية (ألغي نظام الجنسية أخيراً) والحصول على الإقامة الأوروبية (لا يزال العمل قائماً بها) للعائلة بكاملها لمن يستثمر بمبلغ 100 ألف يورو وما فوق، فإن الهجرة الحالية هي هجرة أصحاب المال وليس فقط رأس المال...يصف رئيس مجلس الأعمال اللبناني القبرصي جورج شهوان الهجرة الحالية إلى قبرص بـ«الكبيرة التي لم يسجل مثيل لها سابقاً»، وهو ما تبيّنه مؤشرات عدة، أبرزها «اكتظاظ المدارس القبرصية بالطلاب اللبنانيين الذين غادرت عائلاتهم لبنان نهائياً خلال الأشهر المنصرمة». يقدر شهوان عدد العائلات التي استقرت في قبرص أخيراً بـ«المئات»، أما التسجيل في المدارس القبرصية بهذا الحجم، فـ«يعتبر ظاهرة بكل معنى الكلمة».
الهجمة الكبيرة على قبرص دفعت السلطات القبرصية الى تسهيل دخول اللبنانيين إلى الجزيرة وتخفيف القيود التي وضعتها بسبب تفشي فيروس كورونا في لبنان، بعد مساع حثيثة من مجلس الأعمال اللبناني القبرصي. فوفقاً للمعايير الوبائية في البلاد، نقل لبنان من الفئة «B» إلى الفئة «C» منذ 6 تموز المنصرم، وبالتالي مُنع اللبنانيون من الدخول الى قبرص باستثناء حاملي جنسيتها وتصاريح الإقامة وليس تأشيرة الدخول. ويكشف شهوان أنه بعد لقائه وزير الداخلية القبرصي، برفقة النائب الماروني القبرصي يناكس موسى، تقرر «السماح بدخول كل مواطن لبناني يملك شقة في قبرص أو تعاقد لشراء شقة أو مستثمر أو شخص يرغب في الاستثمار فيها من خلال الاستحصال على إذن خاص للدخول».
«نوعية» الأشخاص الذين سمح قرار وزير الداخلية القبرصي باستثنائهم من الإجراءات تبيّن بوضوح أهمية هذه الفئة لاقتصاد الجزيرة التي تسعى إلى استقطاب ما أمكنها من استثمارات اللبنانيين التي تتدفق عليها منذ أكثر من عام بشكل غير مسبوق، وخاصة في المجالين السياحي والصناعي، حيث تنشط عمليات شراء اللبنانيين فنادق ومطاعم ومصانع.
موجة الاستثمار والتملك في قبرص بدأت قبل أشهر من 17 تشرين، وقادها بعض الذين استشرفوا الأزمة قبل وقوعها وفرّوا بأموالهم إلى الجزيرة. ومع تمدّد حالة الانهيار وفرض المصارف اللبنانية قيوداً غير قانونية على السحوبات والتحويلات المالية، حاول آلاف اللبنانيين تهريب ما أمكنهم من أموالهم المحتجزة من خلال شراء عقارات في قبرص عن طريق شيكات مصرفية، «حتى فاق الطلب العرض وما هو متوفر من شقق جاهزة» بحسب شهوان. وفي مؤشر على حجم القلق الذي يعتري اللبنانيين على مستقبلهم وتحسّبهم لاحتمال مغادرة لبنان بشكل طارئ، يشير شهوان إلى أن «الكثير من المغتربين في إفريقيا والخليج اشتروا عقارات في قبرص في حال اضطرارهم إلى نقل عائلاتهم إليها من لبنان».
المدارس القبرصيّة تكتظّ بمئات الطلاب اللبنانيّين الذين قدمت عائلاتهم إلى الجزيرة


مصائب القطاع المصرفي اللبناني يجنيها نظيره القبرصي فوائد ضخمة. إذ يكشف شهوان أن «أعداداً كبيرة من اللبنانيين فتحوا حسابات مصرفية في البنوك القبرصية، وأن الكثير من المغتربين اللبنانيين باتوا يفضلون تحويل الأموال إلى أقاربهم عبر حسابات في قبرص». وينشط في هذا السياق سفر أصحاب الحسابات من لبنان إلى قبرص لسحب الدولارات والعودة بها إلى بلاد الأرز. وتشير التقديرات غير الرسمية إلى أن حجم المبالغ المودعة في المصارف القبرصية من قبل مقيمين في لبنان وتلك المحوّلة من مغتربين لبنانيين، إضافة إلى ما استثمروا فيها وما اشتروا من عقارات، يقدر بمئات ملايين الدولارات». واللافت أن اللبنانيين تعلّموا الدرس الذي لقّنتهم إياه المصارف وباتوا يفضّلون الأمان على الكسب السريع من خلال الفوائد المرتفعة، إذ إن «الفائدة في قبرص تراوح بين 0.1% و0.3% فقط».
المفارقة أن أياً من فروع المصارف اللبنانية في قبرص لم يستفد ولو بدولار واحد من هذه التحويلات والودائع، أولاً بسبب فقدان ثقة المودعين بها، وثانياً لأن «فروع المصارف اللبنانية في قبرص منعت من فتح أي حساب جديد، إضافة إلى إلزامها من قبل السلطات القبرصية بأن تضع وديعة قدرها 100 ألف يورو في المصرف المركزي القبرصي كضمانة لكل وديعة، مهما تكن جنسية صاحب الوديعة»، وفقاً لشهوان.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا