صحيحٌ أن خيارَ حسم نتيجة الانتخابات الأميركية، باكراً، لم يَعد ذا جدوى، في ضوء تجربة عام 2016، حين رُفعت أعلام الحزب الديموقراطي في انتظار إعلان اسم الرئيسة الأميركية الأولى، هيلاري كلينتون. آنذاك، أخطأت التوقّعات، كما الرهان على مرشّحة لم يسعفها إرثها السياسي، لتصبّ في مصلحةِ آخرٍ يبدو أن "الغالبية الصامتة" عزّزت حظوظه. صحيح أيضاً أن تلك الغالبية لا تزال متوفّرة، وربّما، كما تشير بعض التوقعات، تضاعف عددها، لكن السياق الراهن يختلف بكل جوانيه عمّا حدث في السابق، إن كان لجهة ازدياد حدّة الاستقطاب في الولايات المتحدة، أو ما سيترتّب على فشل الإدارة الحالية في معالجة وباء "كورونا" وتداعياته على الاقتصاد والوظائف.
شكّل فوز الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في عام 2016، مفاجأة من العيار الثقيل، ولا سيما بعدما بيّنت استطلاعات الرأي استمرار تقدُّم المرشّحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، تماماً كما تُظهر، حالياً، تفوّق جو بايدن. ومنذ جاءت النتيجة بخلاف التوقعات، ازدادت حدّة الاستقطاب في الولايات المتحدة، والتي فاقمتها سنوات ترامب الأربع في البيت الأبيض، وما ترتّب عليها من سياسات (ولا سيما لجهة معالجة الأزمة الوبائية) جعلت من احتمالات فوزه بولاية رئاسية ثانية، شبه معدومة. في ضوء ما سبق، ارتفعت أسهم بايدن الذي بات يستقطب أصوات معارضي الرئيس الحالي، ليس حُبّاً بالمرشّح الديمقراطي، وإنما لتجنيب البلاد أربع سنوات أخرى في ظلّ ترامب. مع ذلك، ثمة مَن يشير إلى أن استطلاعات الرأي الحالية، وعلى رغم علاجها ثُغر نظيرتها في عام 2016، لا تزال تستبعد الناخب «الصامت»، الذي يعوّل عليه ترامب.

الناخب «الصامت» يتكلّم!
في عام 2016، لم تأخذ مؤسسات الاستطلاع في الاعتبار الناخبين البيض من غير المتعلّمين. شكّل هؤلاء قاعدة صلبة، ولكن متوارية لمصلحة ترامب. إلّا أنه جرى علاج تلك الثغرة في الاستطلاعات التي ترجّح فوزاً كاسحاً لبايدن، مع احتساب هوامش الخطأ. وعلى رغم التنبؤ بفوز كلينتون في السباق الأخير، إلّا أن مجموعة ضئيلة من شركات الاستطلاع أعطت، في حينه، نتائج متقاربة جداً بين المرشّحين. ومن بينهم مجموعة «ترافلغر» التي تُبيّن، اليوم، نتائج مختلفة عن مجمل الاستطلاعات الوطنية. مؤسّس المجموعة، روبرت كهيلي، كشف في مقابلة مع «فوكس نيوز» أن شركته تعمل بشكل مختلف عن شركات الاستطلاع الأخرى، وأن غالبية تلك الشركات تتّصل بالمواطنين عند الساعة السابعة مساءً عبر الهاتف الأرضي (لا تشمل الاستطلاعات الخلوي)، وتطرح عليهم 10 أو 20 أو 30 سؤالاً. في هذا الإطار، يتساءل كهيلي، «من لديه الوقت لذلك؟ المواطن الأميركي العادي يعمل طيلة النهار، ولا يريد أن يمضي وقته على الهاتف ليلاً متحدثاً إلى شركة استطلاع، وهذا الأمر، على رغم بساطته، يمنع شركات الاستطلاع من إدراك الواقع». يشرح كهيلي أن شركته «تعتمد أسلوباً بسيطاً جداً لجهة عدد الأسئلة وطبيعتها، ولا تأخذ وقتاً طويلاً». والأهم بالنسبة إليه «ثغرة» تَغفل عنها شركات الاستطلاع الأخرى، عنوانها ناخب ترامب «الصامت». ويدّعي أن عدد هؤلاء تضاعف منذ الانتخابات الأخيرة، استناداً إلى أرقام شركته التي «تجعل الناخب الصامت يدلي برأيه».
يجد الأميركي المؤيّد لترامب أن من الأفضل له أن يلزم «الصمت» إزاء آرائه السياسية


لا شكّ في أن الانقسام غير المسبوق في الولايات المتحدة تجلّى خصوصاً في ضوء أزمة وباء «كورونا»، وما تبع ذلك من احتجاجات أعادت المسألة العرقية إلى الواجهة، في بلدٍ لا يزال يعيش على إرثه العنصري. مؤيّدو ترامب يمقتون وسائل الإعلام الديمقراطية الهوى بغالبيتها، والتي شنّت حملةً شرسة على مدى سنوات ثلاث لإقناع الرأي العام بأن الرئيس الأميركي «عميل» لروسيا، وأن له ماضياً سيئاً مع النساء، وأنه لا يولي اهتماماً بالبيئة كونه خرج من «اتفاقية باريس للمناخ». لكن الرئيس الداعي إلى التنعُّم بـ«القانون والنظام» في ظلّ حكمه، وصف المحتجين الذين خرجوا على خلفية مقتل جورج فلويد بأنهم مجموعة من اليساريين والأناركيين المشاغبين. كل النعوت والصفات السابقة ليست موجّهة ضدّ الرئيس وحده، بل ضدّ قاعدته أيضاً. بمجرد أن يعلن أحدهم أنه من مؤيّدي ترامب، سيتم إسقاط «التهم» عليه. ويحتمل، في بعض الولايات، أن يخسر عمله أو أصدقاءه، أو يتم ضربه. لذا، يجد الأميركي «العادي» المؤيّد لترامب، أن من الأفضل له أن يلزم «الصمت» إزاء آرائه السياسية في العلن، والتعبير عنها في صناديق الاقتراع.

لماذا يريد الأميركي «العادي» ترامب؟
لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال من دون ذكر ما يسمى بولايات «حزام الصدأ» (Rust belt states)، وهي ولايات حازت على تسميتها في أواخر سبعينيات القرن الماضي، بعد انخفاض حادّ في العمل الصناعي ترك العديد من المصانع مهجورة ومقفرة. هذا الحزام يبدأ في وسط نيويورك ويمرّ غرباً عبر بنسلفانيا وأوهايو وماريلاند وإنديانا وميشيغان، وينتهي شمالاً في إلينوي وشرق أيوا وجنوب شرق ولاية ويسكونسِن. غالبية هذه الولايات صوّتت لترامب في عام 2016، بعدما قال لناسها إن دخول الولايات المتحدة إلى منظمة التجارة العالمية كان خطأً، وإن دولاً نمت على حساب أميركا، وإذا ما صوّتوا له، سيعيد تلك المصانع إلى العمل. وهذا ما حصل خلال ولايته الأولى: فَرض ضرائب كبرى على العديد من الدول وأبرزها الصين، وأعاد مصانع السيارات إلى ميشيغان، وحصل نمو غير مسبوق في تاريخ أميركا بعدد الوظائف. ثم، ذهب ترامب إلى بنسيلفانيا، وقال في أحد تجمّعاته إن اتفاقات البيئة التي دخلتها الولايات المتحدة أوقَفت مصانع الفحم في هذه الولاية، كما أنها أوقفت عمليات التنقيب واستخراج النفط الصخري، «إذا انتُخب، ستُلغى تلك الاتفاقات وستعود بنسيلفانيا إلى الازدهار». هكذا، وصل ترامب إلى الرئاسة. قبل يومين، ذهب الرئيس الأميركي إلى بنسيلفانيا. لم يكن في حاجة سوى إلى عرض فيديو أمام جماهيره لجو بايدن، يكرّر فيه أنه سيوقف أعمال التنقيب عن النفط الصخري في حال فوزه. وقال ترامب: «إن كنتم تريدون أن تخسروا أعمالكم الجديدة التي جلبتها لكم، وضرائب جديدة كبيرة، صوّتوا لبايدن»، مضيفاً: «نتيجة هذه الانتخابات ستحدِّدها بنسيلفانيا في المجمع الانتخابي». دغدغ ترامب أحلام الأميركيين «العاديين» بعودة الولايات المتحدة إلى عصرها الذهبي. صحيح أنهم يخالفونه الرأي أحياناً كثيرة وفي مواضيع عدة، إلا أنهم يعلمون أنه «الرجل المناسب».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا