أرمينيالعلّ أكبر الخاسرين حتى الآن من التطورات الميدانية والسياسية التي نتجت عن المعارك هو السلطة السياسية في أرمينيا. فبعد اشتباكات طوفوز في 12 تموز/ يوليو الماضي، كان يُفترض برئيس الحكومة، نيكول باشينيان، أن يَتحسّب جيّداً للاستعدادات التي لم تكن سرّية بين أنقرة وباكو، عبر التدريبات والمناورات العسكرية، بل والتصريحات المعادية لأرمينيا. كان واضحاً أن مسار المعارك في الأيام الأولى جرى وفقاً لخطة مسبقة أعدّتها باكو وأنقرة، وتَمكّنت من خلالها القوات الآذربيجانية من التقدّم والسيطرة على مناطق متعدّدة في إقليم ناغورنو قره باغ وفي الأراضي الآذربيجانية التي تحتلّها أرمينيا.
أُسقط بيد باشينيان بعدما كان أعلن أن روسيا ستساعد أرمينيا عسكرياً في الحرب ضدّ آذربيجان، لكون البلدين عضوين في «منظّمة التعاون العسكري» التي تضمّ تركمانستان وأوزبكستان وقرغيزيا وروسيا وأرمينيا. لكن روسيا لم تفعل، بل اعتبرت أن المعارك لا تدور في أراضٍ أرمينية بل آذربيجانية محتلّة. كان ذلك بمثابة منح ضوء، على الأقلّ برتقالي، للجيش الآذربيجاني ليواصل عملياته، إضافة إلى رفض الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الردّ على اتصالات باشينيان به في الأيام الأولى للحرب. ربّما وجدت روسيا الفرصة مؤاتية للتخلّص من رجل جاء إلى السلطة عام 2018 بدفع أميركي. لكن الولايات المتحدة لم تُقدّم له شيئاً وتركته في أوّل الطريق وليس في منتصفه، ولم تفعل شيئاً لوقف الهجوم الآذربيجاني. وفي النهاية، عاد باشينيان، ولو مكرهاً، إلى بيت الطاعة الروسي الذي حمى أرمينيا وقره باغ منذ التسعينيات ولا يزال.
مع ذلك، إن تسليم باشينيان بالقَدَر الروسي متأخراً لن يحمي بقاءه في السلطة، حيث يَتوقع معظم المراقبين أن يطاح بباشينيان بطريقة أو بأخرى، وفي مرحلة ليست ببعيدة، ليأتي بعده من لا ينكر الجميل لموسكو، ومن لا يستعدي الدياسبورا الأرمنية، ولا سيما «تيار الطاشناق» في العالم. كما على الزعيم المقبل لأرمينيا أن يدرك أن المصالح الأميركية الفعلية، على رغم قرارات الاعتراف الناقصة بالإبادة من الكونغرس بمجلسَيه، تقع مع آذربيجان الغنية والقاعدة الاستخبارية الإسرائيلية التي تُهدّد إيران وتربك روسيا في كلّ آن.
تُعتبر باكو من أكبر الرابحين حتى الآن في المعركة الحالية


في خيارات أرمينيا، فإن أمامها أولاً تعزيز قدراتها الدفاعية والاعتماد على نفسها. لكنها ستكون أكثر اعتماداً، وأكثر من أيّ وقت مضى، على روسيا، وشرط ذلك الأول خروج باشينيان من الحكم. فالمعارك الأخيرة أظهرت عزلة أرمينيا، سوى عن التضامن الأخلاقي مع شعب قره باغ. فقد بدا الاتحاد الأوروبي عاجزاً حتى عن التهديد بفرض عقوبات على تركيا أو آذربيجان، فيما كان موقف واشنطن مُخيّباً لآمال الأرمن حتى داخل الولايات المتحدة الأميركية، علماً بأن أصواتاً ظهرت تدعو إلى الاعتراف بجمهورية أرتساغ.
تقع أرمينيا، مثل كلّ الدول الصغيرة، ضحية الجيوبوليتيك المعقّد في قوقاز النفط والمصالح الكبرى للدول الإقليمية والكبرى. وربما تكون هناك حاجة إلى إعادة أرمينيا النظر في مجمل سلوكها في السنتين الأخيرتين، بما يحميها من المخاطر الخارجية من جهة، ويُؤمّن لقره باغ حق تقرير مصيرها؛ إذ من المستحيل العودة إلى الوضع الذي كان قائماً قبل تفكّك الاتحاد السوفياتي.

روسيا
لا شكّ في أن روسيا كانت من أكبر المستهدَفين بالهجوم الآذربيجاني - التركي على أرمينيا وقره باغ. كان يُراد، كما بات معروفاً، فتح جرح في الخاصرة الروسية في جبهة تُعتبر حديقة أكثر من خلفية لروسيا في القوقاز الجنوبي. ولا شكّ، أيضاً، في أن الجانب الروسي قد عانى من إرباك واضح في الأيام الأولى، مكتفياً بالدعوة إلى وقف إطلاق النار. لم تقف موسكو، كما هو تاريخياً وتلقائياً، مع يريفان. وبذلك، فقدت بعضاً من التطلّعات الأرمينية التقليدية إليها. وكانت روسيا بين خيارات صعبة: ألّا تتدخل فتفقد ولاء أرمينيا المعنوي لها على الأقلّ، أو أن تتدخل وتغامر بخسارة علاقاتها المستجدة التي حاكتها، على النمط الإيراني ببطء، على مدى سنوات مع آذربيجان، وما يحمله ذلك من احتمالات تفجّر بؤرة صراع دموية تغمر المنطقة وتخلق لروسيا أفغانستان جديدة، فضلاً عن تعريض علاقتها ومصالحها مع تركيا للتزعزع. لكن بوتين كان فعلاً مخاتلاً وداهية. فهو بتكتيك الحفاظ على مسافة واحدة من آذربيجان وتركيا وأرمينيا، كان يربح الثلاثة، محافِظاً على العلاقة مع باكو وأنقرة، وربّما متطلّعاً إلى تعزيزها في المستقبل، ومتفادياً حتى الآن الغرق في المستنقع الذي «نَصَبه» له الأتراك.
وعلى رغم أن تركيا قالت، بلسان وزير خارجيتها مولود تشاووش أوغلو، إن وقف إطلاق النار ليس كافياً، بل يجب التوصّل إلى حلّ نهائي، فإن روسيا نجحت في أن تكون اللاعب الأول والقوة الأولى في القوقاز الجنوبي، من دون تقاسم هذا الدور مع أنقرة أو أحد آخر، وذلك من خلال رعايتها، بمفردها، اجتماع موسكو نهار الجمعة الماضي لوقف إطلاق النار بين وزيرَي خارجية أرمينيا وآذربيجان، من دون أن يعني ذلك استمرار الأمور على هذا النحو؛ إذ إن دور تركيا كان حاسماً في محاولة تغيير قواعد اللعبة في جنوب القوقاز عبر دعمها السياسي والعسكري واللوجستي الكامل لآذربيجان، ومع أن تشكيل آلية جديدة في القوقاز على غرار «مسار أستانا» ليس في صالح روسيا التي ستفقد تفرّدها بـ»أبوة» المنطقة، لكن تركيا، كما إيران، قد تضغطان في الاتجاه المذكور.

آذربيجان
تُعتبر باكو من أكبر الرابحين حتى الآن في المعركة الحالية. فقد أحرزت تقدّماً جغرافياً يشبع جانباً من حاجتها إلى مكسب ما، خصوصاً بالنسبة إلى الرئيس إلهام علييف الذي تلاحقه تهم الفساد كيفما تَحرّك ومنذ سنوات.كذلك، فإن آذربيجان طوّرت قدراتها العسكرية، ولم تعد تلك التي كانت في التسعينيات.وهي، بقدراتها النفطية وثرواتها وبجيشها الذي تتعاظم قوّته، ستكون أمام لعب أدوار إقليمية أكبر في المستقبل، ولن تعود الدولة الملحَقة بالدور التركي وبأبوّة أنقرة لها. باختصار، نحن أمام قوة إقليمة صاعدة سيكون لها دورها وكلمتها وتأثيرها. لكن ما يشوب سلوك باكو هو الاستهداف المتكرّر لدور العبادة المسيحية في أكثر من مكان، وعلى رأسها الكاتدرائية الشهيرة في شوشي في قره باغ، والتي تَكرّر قصفها، ما يعني أنها مستهدفة بحدّ ذاتها لمحو الهوية الثقافية للأرمن في منطقة قره باغ. وهو ما يحيل إلى أساس الصراع حول الهوية والوجود.

بتكتيك الحفاظ على مسافة واحدة من آذربيجان وتركيا وأرمينيا، كان بوتين يربح الثلاثة


تركيا
سيكون بإمكان الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، أن يخرج مزهوّاً بأنه حَقّق تقدّماً بالنقاط في معركة أرادها في الأساس. فقد غيّر الجيش الآذربيجاني في الوقائع على الأرض لصالحه، وهو مكسب لأردوغان وللأسلحة التركية التي استخدمها ذلك الجيش، ولا سيما الطائرات المسيّرة والطائرات من دون طيار التي أربكت وأنهكت سماء قره باغ وسماء ميادين القتال. وهذا سيزيد اعتماد آذربيجان على صادرات السلاح التركي، وسيفتح أمام أنقرة سوقاً مهمّة لصناعة السلاح.
سيقطف إردوغان بالتأكيد ثمار المعركة، حتى وإن لم تنته بعد. فالمؤشرات كلّها لا تشير إلى رغبة روسية في التدخل العسكري. وسيحاول إردوغان ترجمة ذلك مساوماتٍ مع روسيا في أماكن أخرى أيضاً، مثل سوريا وليبيا. لكن عينه الأولى ستظلّ على الداخل التركي وكسب أصوات إضافية هو بأمسّ الحاجة إليها في صراعه للفوز في معركة الرئاسة بعد سنتين، وربما قبل ذلك. كذلك، فإن إردوغان قد يضغط على باكو للاعتراف بجمهورية شمال قبرص التركية/ ولو في مرحلة لاحقة، على الرغم من أنه في حال أقدمت باكو على خطوة كهذه، فإن اليونان وقبرص اليونانية تُهدّدان بالاعتراف بجمهورية أرتساخ في قره باغ.

إيران
أما بالنسبة إلى إيران، فإنها كانت أيضاً من ضمن الدول المستهدَفة في الهجمة الآذربيجانية - التركية الأخيرة. وقد نجحت باكو في انتزاع تأييد طهران، ولو الشكلي. وقد ميّزت طهران بين باكو وأنقرة، عندما انتقد رئيسها حسن روحاني، كما مستشار مرشدها علي أكبر ولايتي، تركيا، واتهماها بالنفخ في نار الأزمة وصبّ الزيت على النار. ولعلّ الغضب الإيراني من تركيا منشأه الفخّ التركي الذي كانت أنقرة تنصبه لطهران، من خلال إرسال تركيا مرتزقة بالمئات من سوريا إلى آذربيجان، وما يحمله ذلك من مخاطر تحويل منطقة جنوب آذربيجان المحاذية للأراضي الإيرانية إلى «إدلب جديدة» وبؤرة لتجمّع إرهابيين من كلّ العالم تُهدّد الأمن القومي الإيراني.
لذا، فالموقف الإيراني، كما الروسي، رَكّز على منع تصعيد الحرب، والعمل على وقف إطلاق النار وإعطاء الحلّ السلمي مداه. ولا شكّ في أن طهران، بهذا الموقف المتّزن، استطاعت استيعاب الثور الآذربيجاني الهائج ومحرّضيه. وهذا لا يلغي، على رغم وجود ملايين الآذريين الشيعة في إيران، استمرار الموقف الأخلاقي والسياسي الإيراني الداعم لأرمينيا منذ عشرات السنين. فالأزمة في قره باغ وفي القوقاز لم تكن يوماً دينية أو مذهبية بل سياسية بامتياز.
ولا يمكن إنهاء هذه المقاربة من دون المرور على الموقف الإسرائيلي المسرور لأيّ إرباك لروسيا وإيران. ولكن تل أبيب فوجئت، ربّما، بالموقفَين الذكيَين لموسكو وطهران، وأصيبت بخيبة أمل نسبية.
الأنظار مُعلّقة على وقف إطلاق النار، وإذا ما كان سيصمد أو لا، وإذا ما كانت أبواب التهدئة قد فُتحت على مصراعيها أو لا، في صراع لا يبدو في الأفق ما يشير إلى إمكانية حلّه بالطرق السلمية، من دون تغييرات جدية في المعادلتين الإقليمية والدولية.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا