لم يكن الأمر يحتاج الى بيان تصدره «هيومن رايتس» عن جمعيات ومؤسسات «تنتحل صفات جمعيات أهلية وأسماء جمعيات مجتمع مدني تستغل وجع الناس لتنفيذ أهداف خاصة أخرى كالاحتيال والسرقة»، لإدراك أن حصر المساعدات المالية والمادية بيد الجمعيات سيشرّع السرقة والاستنسابية وكل أنواع الغشّ والاحتيال. ولا يرتبط ذلك فقط بجمعيات «وهمية»، كما أشارت المنظمة، بل ينسحب أيضاً على تلك التي فرضت نفسها أمراً واقعاً تحت عنوان «إنساني». وكان الأجدى، بـ«هيومن رايتس» و«أخواتها» والدول التي تنتمي اليها، أن تدرك مسبقاً مدى الضرر الذي سيلحق بالمدينة وضواحيها وسكانها جراء حجب الأموال عن المؤسسات الحكومية بحجة الفساد وإعطائها لجمعيات لا يقلّ بعضها فساداً، مع فارق أن ثمة رقابة كان يمكن أن يفرضها المانحون على الدولة، الأمر الذي يصعب تطبيقه على هيئات «مجتمع مدني» تسرح اليوم من دون رقيب أو حسيب، فضلاً عن استحالة حلول هذه الجمعيات مكان الدولة وأجهزتها لناحية تقدير الأضرار والمسح الشامل والتواصل مع المتضررين جميعهم، لا في مناطق محددة. إذ إن ترميم أو إعادة بناء آلاف المنازل والمحال والمصانع الصغيرة والمستشفيات والمدارس والبنى التحتية وغيرها، يحتاجان الى رسم خطة شاملة لا ترك الساحة لتلعب فيها جمعيات لا خبرات لها في هذا الشأن.وحتى الساعة، سجلت في غرفة الطوارئ المتقدمة التابعة للجيش اللبناني 385 جمعية، بعضها يتولى تأمين الوجبات الغذائية حصراً، وبعضها يقدم خدمات تتعلق بالصحة النفسية أو توزيع أدوات النظافة، وبعض آخر منها يدّعي أنه يهتم بإعادة الاعمار. فيما سُجّل، بعد شهر على الانفجار، ترميم 437 منزلاً بحسب أرقام الغرفة التي تأخذ من بلدية بيروت مركزاً لها. وهو رقم ضئيل، عدا عن صعوبة تصنيف هذه «التصليحات» ضمن إعادة الإعمار، كون بعضها يقتصر على تصليح باب أو تركيب زجاج بعض النوافذ، ما يرجّح أن عودة المتضررين الى منازلهم ستطول.
الجمعيات الـ 385 ليست العدد الإجمالي للجمعيات الموجودة على الأرض، بل عدد تلك التي تذهب بنفسها الى غرفة الجيش لأخذ الموافقة على العمل. العميد سامي الحويك، رئيس غرفة الطوارئ، ينفي وجود أي معلومات عما يصل الى هذه الجمعيات من مساعدات، «باستثناء الرقم الذي تصرّح عنه بنفسها. لذلك يصعب ضبط المساعدات التي تصل من الخارج»، متوقعاً أن يشهد هذا الأسبوع «مشكلات مع الجمعيات لأننا سنبدأ بفرض التزام خطي عليها وتحديد أماكن عملها، إذ دخلنا في مرحلة أعمال البناء التي تؤثر على السلامة العامة».
والمفترض بجمعيات تحمل عنوان «مجتمع مدني» وتدّعي مكافحة الفساد أن تكون الشفافية أساس عملها عبر نشر ما يصل إليها من أموال وما تنفّذه من أعمال، وأن تطلع الجيش على تفاصيل عملها كونه يتولى التنسيق بينها. إلا أن أيّاً من ذلك لم يتم، علما بأن كثيراً من هذه الجمعيات، بحسب الحويك، تتقاضى أموالاً مباشرة وتوزّعها على المتضررين «وننسّق معها حالياً لتوحيد قيمة الدفعات بين كل الجمعيات وتوزيعها على مدى 6 أشهر قابلة للتجديد». فيما تعمد جمعيات أخرى الى شراء الزجاج والألمنيوم والحديد. أما «رقابة» الغرفة «فتتم عبر درس قدرات كل جمعية وإمكاناتها، ثم توزيعها على المناطق المناسبة... علماً بأن بعضها يطلب العمل في مناطق معينة ويقدم لائحة بأسماء محددة. ومهمة الجيش، هنا، هي الحرص على عدم استفادة أي فرد أو عائلة أكثر من مرة من هذه المساعدات، وعلى مراقبة أعمال البناء التي تقوم بها الجمعيات».
20 شخصاً فقط طلبوا من الجيش تأمين أماكن إيواء لهم


الحديث عن ضرورة اعتماد الجمعيات الشفافية في عملها مع الجيش ينطبق أيضاً على المؤسسة العسكرية. فقد رفض الحويك إعلان لائحة بالجمعيات العاملة في بيروت «حفاظاً على خصوصيتها»، مشيراً الى «أننا ننشر على الموقع الخاص بالانفجار أسماء الجمعيات التي توافق على ذلك؛ وهناك 4 جمعيات فقط من 385 وافقت على الأمر»!، في وقت كان يفترض بالغرفة نفسها أن تنشر أسماء الهيئات المدنية من دون أي عائق طالما أنه لا لبس في عملها.
يقدر الحويك أضرار انفجار المرفأ بـ 15 مليار دولار. ومع «اندفاع الجمعيات وجهودها وقدراتها»، على ما يقول، «تمكنّا من إنجاز المرحلة الأولى من إعادة الإعمار (ضمنها الإيواء)، أي إصلاح المنازل التي تحتاج الى ترميم طفيف. أما المرحلة الثانية، فلا قدرة إلا لعدد بسيط على العمل فيها ضمن الشروط المطلوبة لإعادة ترميم المباني ذات الأضرار الكبيرة وتأمين الموارد المطلوبة لهذا الغرض»، علماً بأن 12 جمعية فقط هي المنخرطة بإعادة الإعمار، فيما تنفذ بقية الجمعيات مهمات أخرى. وحتى الأسبوع الماضي، كانت حركة هذه الجمعيات تدور حول بيروت، وبخاصة منطقة الجميزة، إلا أن تعميماً لمجلس الوزراء صدر قبل أيام ضمّ المناطق الخارجة عن نطاق بيروت الى الغرفة ليتسنّى لها الاستفادة من المساعدات. أما الجيش، فلم يتلقّ أي مساعدات عينية، باستثناء الترابة التي قدمها رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، وباخرة واحدة محملة بالزجاج وصلت من مصر، بانتظار وصول بواخر أخرى. ورغم وضعه خطاً هاتفياً بتصرف المحتاجين الى أي خدمة أو الراغبين في تسجيل شكوى، فإن 20 شخصاً فقط طلبوا تأمين منازل لهم.
من جهة أخرى، يتابع الجيش عملية المسح التفصيلي والشامل لكل الأبنية المتضررة، بعضها جرى تدعيمه وقسم آخر يفترض هدمه، فيما قسم ثالث سيتم تفكيكه حفاظاً على أحجاره لأنه مصنّف ضمن المباني التراثية. لكن إنجاز القسم الأخير يحتاج الى إنهاء المديرية العامة للآثار لمهماتها، فهناك 154 مبنى أثرياً. كل هذا الجهد والتعاون بين الجيش ومؤسسات الدولة ومحافظتَي جبل لبنان وبيروت، إضافة الى رئيس بلدية العاصمة ونقابة المهندسين وغيرهم، لن يحقق النتائج المرجوة على الأرض قبيل قدوم الشتاء. قد تبقى الوحدات السكنية والشوارع المتضررة من انفجار الرابع من آب منكوبة لوقت طويل... ربما الى حين تقديم الدولة اللبنانية فروض الطاعة للفرنسيين والأميركيين حتى يتم رفدها بالمساعدات، أو بالأحرى، بالقروض.



بالأرقام


2500 هو مجموع المنازل التي جرى تقييم حالتها بحسب غرفة الطوارئ المتقدمة.
463 منزلاً جرى ترميمها.
66 منزلاً أُخليت.
870 وحدة سكنية تخضع حالياً للترميم.
18.52% من المباني جرى مسحها بشكل تفصيلي.
42 هو عدد الجمعيات والهيئات التي تساعد في عملية ترميم المنازل.
24800 حصة غذائية وزّعت عبر الغرفة و74600 وجبة جاهزة.
21200 عائلة جرى تزويدها بقسائم لشراء الطعام.


الدولة أيضاً تحجب المعلومات
لم تتلقّ الدولة ممثّلة بحكومة تصريف الأعمال، على ما تؤكد مصادرها، أي مساعدات مالية أو مواد أولية باستثناء باخرة الزجاج المصرية. جلّ ما وصل إليها هو حصص غذائية وأدوية. لكن من هي الدول التي قدمت هذه المساعدات؟ محاولة الضغط على الرابط المذكور في صفحة المنصة المخصصة لأعمال الإغاثة حول هذه المعلومة لا يعمل: «لا يمكن إلا لأشخاص محددين الاطلاع على هذه المعلومات» (!)، تقول المصادر. قبل أيام، جرى تفريغ 8000 طن من باخرة الطحين التي تحتوي على نحو 12 ألف طن، و«سيجري توزيعها على المطاحن في كل أنحاء البلد لدعم الأمن الغذائي عبر زيادة 117 غراماً على ربطة الخبز لمدة شهرين». المنصة التي أنشأها مجلس الوزراء وترأسها وزيرة الدفاع زينة عكر تصدر تقريراً أسبوعياً بالأشغال المنجزة وبالأرقام التفصيلية المرتبطة بالمباني المتضررة والمساعدات الدولية. التقرير الصادر الأسبوع الفائت يشير الى أن 2015 مبنى و363 مبنى أثرياً جرى مسحها من قبل نقابة المهندسين، و2500 وحدة سكنية تم تقييمها من قبل غرفة الطوارئ المتقدمة التابعة للجيش. وتشير المصادر الى أن أخطر ما جرى هو اختلاط المياه العذبة بمياه المجارير، وذلك بحاجة الى إصلاح سريع للبنى التحتية، تتولى مهمته مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان ومنظمة اليونيسيف. وفي هذا السياق، تضررت أنظمة المياه في 1339 مبنى، ومياه الصرف الصحي في 647 مبنى، إضافة الى تأثر 3584 خزان مياه وفقاً لمكتب الأمم المتحدة. كذلك طاولت الأضرار شبكات الكهرباء، فيما الدمار اللاحق بمكاتب مؤسسة كهرباء لبنان ووزارة الطاقة والمياه تقدر كلفته بما بين 40 و50 مليون دولار.