لعلّ الاستثناء الوحيد الذي يمكن استخلاصه من كتاب «الدم والنفط: بحث ابن سلمان الشرس عن قوّة عالمية» لمراسلَي «وول ستريت جورنال»، برادلي هوب وجاستين شيك، يكمن في توقيت نشره، على مسافة شهرين من انتخابات الرئاسة الأميركية، والهرولة التي تسبق الحدث الأهمّ لهذا العام، إلى التطبيع مع إسرائيل بقيادة الإمارات ومباركة السعودية. الكتاب الذي يحكي، مرةً جديدة، سيرة صعود وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، الذي فَتَن الغرب في المرحلة السابقة لاغتيال جمال خاشقجي، يجيء بعد أشهر قليلة مِن نشر آخر لمراسل «نيويورك تايمز»، بِن هابرد، بعنوان «إم بي إس: صعود محمد بن سلمان إلى السلطة»، قدّم قراءة وافية عن تعاظم سلطة الأمير في خلال نصف عقد، بمضمون هو أشبه ما يكون بالسِيَر الذاتية. غير أن الكتاب الجديد الصادر أول من أمس، وإن لم يقدّم معلومات استثنائية، يُعدُّ نتاج تحقيق صحافي يتناول حياة ابن سلمان وقراراته التي قادت إلى تربُّعه باكراً على العرش. ويُلقي الكاتبان مزيداً من الضوء على الصعود الصاروخي للأمير (أكمل أعوامه الـ35 قبل أيام)، والذي تزامن مع تآكل عصر النفط، لتحلّ بدلاً منه «رؤية» ظنّ الشاب الطموح أن تحقيق بنودها سيكون بسهولة كتابة سطورها، ليتبيّن له بعد مضيّ أربع سنوات ونصف سنة على إطلاقها، أن لا فكاك من الإدمان على النفط، وأن دون المقامرة عقبات كثيرة.
نجح الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في رأب صدع العلاقات الأميركية - السعودية، بعدما جعل من الرياض، في أيار/ مايو 2017، محطّته الخارجية الأولى، استجابةً لنصيحة مستشاره وصهره، جاريد كوشنر، ومن ورائه كبير استراتيجيي البيت الأبيض، آنذاك، ستيف بانون، اللذين راهنا على أن في مقدورهما استحصال دعم إقليمي (خليجي) لدفع اتفاقات التطبيع مع إسرائيل قُدُماً، وتالياً خطط الإدارة لـ»السلام». احتفت المملكة بالضيف الأميركي وعائلته، على مدى ثلاثة أيام، تخلّلتها قِمم خليجية وإسلامية رسّخت، مرّة جديدة، مركزيّة السعودية في العالم الإسلامي، فضلاً عن أنها رسمت إطاراً واضحاً سيتجلّى مع مرور الوقت، لعلاقة محمد بن سلمان بهذه الإدارة.
بعد أيام من فوز ترامب غير المتوقّع، تسلّل ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، إلى اجتماع في «برج ترامب»، حضره بانون وكوشنر. يلفت الكاتبان إلى أن ابن زايد شعر براحة استثنائية حين بدأ بانون بالحديث عن «الفرس»، وعن سياسات أوباما الكارثيّة في المنطقة، ما دفع الضيف الإماراتي المتحمّس إلى اقتراح تواصل الإدارة الجديدة مع ابن سلمان: «إنه مفتاح خططك في المنطقة»، قال للمستشار الاستراتيجي. حلف «المحمدَين» كان بدأ ينضج، بعدما تولّى ابن زايد أمرَ تضخيم صورة ابن سلمان في واشنطن. وعلى رغم اغتياظ وزير الخارجية السابق، ريكس تيلرسون، الذي كان يخشى تقويض مكانة ولي العهد السعودي، محمد بن نايف، وتكراره أنه لا يمكن الاعتماد على وعود الرياض، ونصيحته كوشنر بتأجيل موعد الزيارة الرئاسية حتى عام 2018، لأن «السعوديين سيخذلونك دائماً»، أصرّ المستشار على المضيّ في خطّته. رُتِّب اتصال هاتفي بين ترامب والملك سلمان للإعداد لقِمّة الرياض. اتصالٌ عبّر فيه هذا الأخير عن إعجابه بالرئيس الذي أكّد، من جهته، أنه سيكلّف كوشنر بمسألة الرحلة، على أن يتولّى الأمير محمد ترتيبها سعودياً: «إذا كنت تعتقد أنه لا يقوم بعملٍ جيد (ابن سلمان)، يمكنك أن تقول له: أنت مطرود!»، قال سلمان لترامب. منذ ذلك الحين، توطّدت علاقات الثنائي كوشنر - ابن سلمان، بعدما استطاع الأخير إقناع الأول بأنه لا يشبه غيره من الأمراء، وبكونه يدرك أهميّة عصر ما بعد النفط: المال والتكنولوجيا.
أكد ابن زايد لإدارة ترامب أن ابن سلمان يمثّل مفتاح خططها في المنطقة


أدرك ابن سلمان أنه يمكن إرضاء ترامب من طريق كيل المديح له أولاً، ووضع اسمه على صفقات بمليارات الدولارات ثانياً. وهو فعل ذلك على أكمل صورة، فحصل على معاملة تفضيلية في واشنطن، وضعته فوق المساءلة وأطلقت يده في التنكيل بكلّ من يعترض طريقه، فكانت «حملة الريتز» واغتيال جمال خاشقجي، وملاحقة المعارضين واعتقالهم.
قبل جلوس والده على العرش في كانون الثاني/ يناير 2015، لم يكن ابن سلمان معروفاً إلا لدى قلّة خارج المملكة، كما أن اسمه لم يكن متداولاً داخلها. من وزارة الدفاع والتحكُّم المطلق في اقتصاد المملكة وامتلاك «كارت بلانش» لإنفاق مليارات الدولارات، إلى إطلاق الحرب على اليمن، أصبح اسم الأمير في وقت قياسي الأكثر ترداداً عالمياً. ومع إطاحة مقرن بن عبد العزيز في نيسان/ أبريل 2015 من ولاية العهد، صعد ابن سلمان إلى المرتبة الثانية في الطريق إلى العرش. إنجازٌ استدعى إقامة احتفالات صاخبة في جزر المالديف، حيث استأجر الأمير وحاشيته جزيرة خاصة لاحتفالات كَلّفت 50 مليون دولار، كان يفترض أن تتواصل على مدى شهر، لو لم ينفضح أمرها بعد أقلّ من أسبوع. في ذلك الوقت، بدأ الأمير بشراء «اللعب الثقيلة»، كما يصفها المؤلفان: اشترى يخت «سيرين» الذي يبلغ طوله 439 قدماً بـ429 مليون دولار، وقصراً في فرساي مقابل 300 مليون دولار.
كذلك، توقّف الكاتبان عند استيعاب ابن سلمان لأهمية منصّات التواصل الاجتماعي في المجتمع السعودي، حيث يمضي أكثر من 60% من الشباب أوقاتهم في الفضاء الإلكتروني. فقرّر أن يستخدم «تويتر» - المنصة الأولى بين السعوديين - ليروّج لـ»الشاب الإصلاحي» الذي يريد القضاء على سلطة رجال الدين المتزمّتين، وإعطاء المرأة حقوقها، والإتيان بكلّ وسائل الترفيه إلى المملكة، في محاولة لكسب شعبية بين شباب المملكة ليصبحوا سلاحه في مواجهة منافسيه على العرش. في الوقت نفسه، كان لا بد من ضمان السيطرة على تلك الأداة حتى لا تتحوّل إلى سلاح في أيدي أعدائه أو منافسيه. ومن هنا، بدأت قصة اختراق حسابات «تويتر» من المنبع في «وادي السيليكون» في سان فرانسيسكو، حيث تولّى مساعد ولي العهد السعودي، بدر العساكر، تجنيد أحد مديري الشركة، أحمد أبو عمو، وآخر هو علي آل الزبارة، وما تلى ذلك من تفاصيل ظهرت بالفعل عبر قضية أقامها مكتب التحقيقات الفدرالي، وتمّ نشر الكثير من تفاصيلها في الإعلام الأميركي.
ويورد الكتاب بعض التفاصيل التي تشير إلى إنفاق ابن سلمان مليارات الدولارات لاستضافة شخصيات بارزة في عالم المال، من أمثال مديري «جي بي مورغان» و»غولدمان ساكس». وفي نيسان/ أبريل 2016، ظهر رئيس تحرير وكالة «بلومبرغ»، جون ميكليثويت، على الشاشة ليعلن أن السعودية على وشك تأسيس صندوق استثمار سيادي بقيمة تريليونَي دولار. الصندوق الذي بشّر به ابن سلمان قبل أربع سنوات ونصف سنة، تبلغ قيمة موجوداته نحو 300 مليار دولار فقط، تضعه في المركز الرابع خليجياً بعد صناديق الاستثمار السيادي في الإمارات والكويت وقطر، في مؤشّر واضح إلى الفارق الشاسع بين ما يحلم به الأمير الطموح والواقع. ينسحب هذا أيضاً على «رؤية 2030» نفسها، والتي تسبّبت، معطوفةً على تداعيات وباء «كورونا» التي فاقمتها حرب أسعار النفط، في وضع حرج للاقتصاد السعودي، وصلت آثاره التقشّفية إلى المواطنين السعوديين.



ابن نايف لم يعلم بحرب اليمن
بعد الإعلان عن انطلاق "عاصفة الحزم" من واشنطن في آذار/ مارس عام 2015، توجّه أنتوني بلنكن، كبير مستشاري نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، إلى الرياض، في مسعى لقراءة الموقف السعودي. وفي لقاء جمعه بوليّ العهد آنذاك، محمد بن نايف، وصف الأخير الحرب على اليمن بأنها "رهان خاسر"، على رغم محاولته تفادي الحديث عنها، نظراً إلى أنه لم يكن يعلم بأمرها، وفق ما يؤكّد "مسؤول استخباري كبير" تحدّث إلى الكاتبَين. وهي الرواية نفسها التي أكّدها وزير الحرس الوطني السابق، متعب بن عبد الله، لأحد زواره، حين قال إن ابن نايف لم يعلم مسبقاً بشأن الحرب، وإن هياكل الحكم في المملكة تتغيّر.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا