شهدت مدينة سرت ومنطقة الجفرة (سهل صحراوي شاسع يمثّل معبراً استراتيجياً بين شرق البلاد وغربها ويحوي قاعدة جوية مهمّة) حشداً عسكرياً غير مسبوق منذ تراجع قوات المشير خليفة حفتر من شمال غرب ليبيا مطلع الشهر الماضي. حَصّنت تلك القوات مواقع تمركزها، فيما أشرف عناصر شركة «فاغنر» الروسية على زرع ألغام في النقاط التي يمكن اختراقها. كما نُشر نظام دفاع جوي متوسط المدى في المنطقة، وأعيد توزيع أغلب الوحدات العسكرية التابعة لهذا المحور.لعبت مصر، لأول مرة منذ عام 2011، دوراً معلناً في هذا التصعيد. اعتبرت القاهرة، على لسان الرئيس عبد الفتاح السيسي، أن سرت والجفرة «خط أحمر» لا يمكن لقوات حكومة «الوفاق» تجاوزه، واتخذت خطوات متسارعة لإثبات جدّيتها. حصل هذا الموقف على دعم غير مشروط من محور شرق ليبيا، كما صادق البرلمان المصري على قرار يسمح بتنفيذ عمليات عسكرية خارج البلاد.
من جهتها، أرسلت «الوفاق» تعزيزات عسكرية باتجاه الحدود الغربية لسرت، لكنها لم تنخرط في مناوشات مع قوات حفتر. أما تركيا، ففضّلت التركيز على ترسيخ حضورها في غرب البلاد، عبر تطوير منشآت تابعة لها في مدينة مصراتة الساحلية، وتجهيز قاعدة «الوطية» الجوية القريبة من الحدود التونسية، والتي استقبلت أول رحلة مباشرة من تركيا قبل ثلاثة أيام.
تَشابَه السلوكان المصري والتركي في الأسابيع الأخيرة؛ إذ واصل كلا البلدين التلويح بالحرب مع التعبير في الآن ذاته عن رغبة في التهدئة. أصدرت القاهرة بشكل شبه يومي تهديدات وتصريحات تصعيدية، لكن السيسي عبّر، خلال اتصال هاتفي مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب الإثنين، عن رغبة في تثبيت وقف إطلاق النار وتفعيل الحوار السياسي. أما أنقرة، فلم تتوقف عن تأكيد قدرتها على هزم محور حفتر، إلا أنها أعربت في الآن ذاته عن عدم رغبتها في مواجهة أيّ بلد آخر في ليبيا، وخاصة مصر.
أما موسكو، فقد التزمت بموقف يرمي إلى التهدئة، مُجدّدةً وقوفها على الحياد بين طرفَي النزاع، على رغم أنها بنت حضورها في الملف على تدخلها غير المعلن إلى جانب حفتر. ويوم الأربعاء، انعقد في أنقرة اجتماع بين وزير الدفاع ونائب وزير الخارجية الروسيَّين من جهة، ونظيرَيهما التركيَّين من جهة أخرى. وهو اجتماع كان يفترض أن يُعقد منتصف الشهر الجاري، لكنه تأجل بسبب وجود «اختلافات عميقة»، وفق ما أُعلن حينها. تمّ التوصل خلال لقاء الأربعاء إلى اتفاق أولي على تشكيل لجنة عمل مشتركة روسية - تركية، تبدأ نشاطها في موسكو «قريباً»، وفق مصادر إعلامية ليبية.
يرى كثير من المحللين أن سرت ستتحوّل عملياً إلى «إدلب ليبيا»


بدورها، تدفع الجزائر في اتجاه تهدئة الوضع. أمس، زار وزير الخارجية، صبري بوقادوم، موسكو، حيث عقد مباحثات مع نظيره الروسي سيرغي لافرورف، وشدّد في مؤتمر مشترك معه على ضرورة استئناف الحوار السياسي باعتباره المخرج الوحيد من الأزمة. يأتي ذلك بعدما استهجن الرئيس عبد المجيد تبون، في حوار مع وسائل إعلام محلية، التهديد المصري بتسليح القبائل في شرق ليبيا، واعتبر أن ذلك قد يُحوّل البلاد إلى «صومال جديدة».
يلاحظ، هنا، تزايد أهمية الدور الذي اكتسبته روسيا على مدى عام ونصف عام، وهو يأتي على حساب الدول الأوروبية المهتمّة بالملف والتي تراجع نفوذها بشكل دراماتيكي، كما يتعزّز بالقطيعة الحادّة بين مصر وتركيا. يرى كثير من المحللين أن سرت ستتحوّل عملياً إلى «إدلب ليبيا»، عبر صفقة بين تركيا وروسيا، لكن الأمر في الواقع مختلف لأكثر من سبب. مع ذلك، في حال انطلقت مفاوضات جدّية بين أهمّ الدول المتدخلة في الملف الليبي، يبدو السيناريو الأقرب خلق منطقة منزوعة السلاح.
لن تكون هذه المرة الأولى التي يُطرح فيها هذا المقترح، إذ سبق أن تقدّمت به البعثة الأممية العام الماضي، لكنه تمحور آنذاك حول الحرب في طرابلس، بينما يُعدّ دفع الخط الفاصل من ضواحي العاصمة إلى وسط البلاد اليوم إنجازاً لحكومة «الوفاق» وتركيا. في المقابل، ستحصل مصر على ضمانة بعدم تقدّم قوات «الوفاق» باتجاه غرب البلاد، وبالتالي تحافظ على سلامة أراضيها من تداعيات النزاع، ويبقى لحليفها حفتر موقف تفاوضي جيّد.
يمثل ذلك السيناريو الأمثل، وهو ممكن التطبيق، لكنه يقتضي جدّية وتنازلات متبادلة. كما أن تحقيق تهدئة مستدامة يستوجب فتحَ مسارات تسوية أخرى: على الجانب الاقتصادي حيث تبدو الولايات المتحدة أكثر الدول نشاطاً في ما يخصّ ملف استئناف إنتاج النفط وتقاسم موارده، والسياسي الذي سيتطلّب أعواماً لبناء الثقة ووضع قواعد صلبة، والعسكري لبناء جيش موحّد.
على رغم التصعيد العسكري غير المسبوق في ليبيا كمّاً وكيفاً، يبدو الحل أقرب مما كان عليه في أيّ وقت مضى، مع نشوء توازن قوى نتيجة التدخل العسكري الأجنبي. لكن التدخلات الخارجية أفقدت البلاد أيضاً مناعتها وسيادتها، وجعلتها رهينة توافقات وصراعات قوى إقليمية ودولية، وهو وضعٌ لا تظهر نهايته قريبة.