لنبدأ «من الأول»: ما دخل شركة «لازارد» في وضع خطّة ماليّة للبنان؟ الشركة هي مستشار تقرر التعاقد معها لأجل التفاوض مع الدائنين الخارجيين. ومهمتها هي إطلاق مفاوضات مع هؤلاء من موقع الحرص على الزبون، أي الدولة اللبنانية وليس العكس.الشركة ليست جمعية خيرية. وهي مثل كل الشركات الاستشارية العالمية تخضع لنفوذ حقيقي (وليس متخيّلاً) للحكومات التي تمون عليها. وهذه الشركة خاضعة، بالتأكيد، لنفود المؤسسات المالية العالمية التي تخضع بدورها لسلطة الولايات المتحدة الأميركية.
ممثلو الشركة قالوا منذ اليوم الأول إن الموقع التفاوضي للبنان ليس جيداً. وبالتالي هم أرادوا تحسينه، ولكن كيف؟
في المعلومات المصدّق عليها من قبل مسؤولين في الحكومة الحالية، أن شركة «لازارد» ليست مخوّلة على الإطلاق بأي تفاوض أو بحث خارج إطار الدائنين. وهو الأمر الذي توضّح خلال التواصل مع صندوق النقد الدولي الذي لا يتفاوض مع شركات، بل مع حكومات. لكن الذي لا نعرفه، هو سبب قبول الحكومة بتولي دور الوسيط بين الشركة وصندوق النقد. هذا هو عملياً ما يحصل، إذ يتولى المدير العام لوزارة المال، ألان بيفاني، مهمة ناقل الأسئلة والاقتراحات والأجوبة والتقييم بين ما تعرضه «لازارد» وما يقوله صندوق النقد الدولي.
عملياً، نبدو مرة جديدة في حالة استسلام أمام المؤسسات الدولية. والسبب أن في الحكومة الحالية من يعتقد بأن القوى السياسية المحلية لن تقبل السير في أي مقترحات تصدر عن الحكومة، بينما ستكون مضطرة إلى السير بمقترحات وقرارات تصدر عن جهات دولية.
من هو العبقري الذي يقتنع بهذا الكلام؟ هل تعتقدون بأن ثمة ما يفرض على القوى المحلية الخضوع لطلبات هذه المؤسسات الدولية لأنها تحمل شارة الرجل الأبيض؟ ثم من قال إن لبنان لا يمكنه معالجة المشكلة بنفسه؟ وإذا كانت الحجّة بالذهاب نحو صندوق النقد هي السعي للحصول على دولارات جديدة، فمن سيتولى إنفاق هذه الدولارات؟ هل هي جهات لا يعرفها اللبنانيون، وهل هي حكومة أو مؤسسات لا تخضع لنفوذ هؤلاء السياسيين؟ يعني، هل إن وزير المال سيعيَّن خارج ما يريده نبيه بري، وهل إن جبران باسيل سيتوقف عن التدخل في عمل الحكومة، وهل سيعلن سعد الحريري ووليد جنبلاط التقاعد الطوعي، أو يعرف طلال أرسلان وسليمان فرنجية أن المطروح ليس وراثة الحزب الاشتراكي والقوات اللبنانية، بل وراثة المسؤولية القاسية؟
الواضح، من مداولات جارية بعيداً عن الأضواء، أن الاميركيين الذين يملكون النفوذ الأكبر على الدول والجهات المانحة، أبلغوا كل من يهمّه الأمر أن لبنان ليس أولوية الآن. وحتى لو تقرر إدراجه على جدول الأعمال، فعليه القيام بالكثير من أجل الحصول على الدعم. وهذا الكلام قيل صراحة لكل من يهمّه الأمر في لبنان، كما جرى إبلاغه الى من يفكر في دعم لبنان، من فرنسا وألمانيا وقطر الى صندوق النقد الدولي نفسه. ووصل الأمر إلى حدّ أن مسؤولين في صندوق النقد الدولي قالوا صراحة: نحن لدينا القدرة على دعم لبنان ببرنامج قروض لا يتجاوز العشرة مليارات دولار. لكنها ستدفع على مراحل تتراوح مدة كل مرحلة منها بين ستة وثمانية أشهر، ولا تتجاوز الدفعة الـ 750 مليون دولار. والسبب أن صندوق النقد يريد التثبت من قيام الحكومة اللبنانية بما يجب حتى تستحق القرض من جهة، وليتأكد الصندوق من قدرة لبنان على سداده. ولكن كيف يتم ذلك؟
هنا، يخرج الأرنب الذي اسمه «لازارد». في لبنان من يعتقد بأنه يتشاطر على صندوق النقد. وفي لبنان من يتوهم بأن مساعدات صندوق النقد ستعالج المشكلة. وفي لبنان من يصرّ على رهن كل ما فيه للخارج والاستماع الى ما يقوله الأميركيون وأهل الغرب. وعروض «لازارد» إنما هدفها المعلن، وليس المضمر، هو إنتاج خطة تلبّي ضمناً شروط صندوق النقد. لكن ما لا يقوله ممثلو هذه الشركة يقوله مستشارو صندوق النقد بشكل رسمي وغير رسمي: نريد ضمانات بألّا يذهب قرش الى حزب الله، كما نريد ضمانات بألّا تُحوَّل دولارات الى سوريا. هذا قبل الدخول الى لعبة الشروط التي يمكن اختصارها بالآتي: القضاء على دولة الرعاية وعلى دور الدولة، وتسليم ما تبقى منها الى القطاع الخاص (القطاع الخاص، يعني مثل المستشفيات الخاصة التي بدت هزيلة ومترهّلة أمام مستشفى عامّ واحد هو مستشفى رفيق الحريري الحكومي... ترى، أين هو مركز كليمنصو الطبي من مواجهة كورونا؟). والقطاع الخاص هنا هو شركات أجنبية مملوكة من جماعات أميركا والغرب، أو من قبل كبار المودعين في المصارف اللبنانية الذين يريدون أموالهم إما نقداً أو على شكل حصص في أصول للدولة اللبنانية... فما الذي تفعله الحكومة؟
حسان دياب، لديك في لبنان من هم أكفأ وأكثر خبرةً وإخلاصاً من العاملين في لازارد وصندوق النقد


بهذا المعنى، فإن جزءاً كبيراً مما ورد في الخطّة الماليّة لا يعدو كونه تكراراً لشعارات وأفكار لا تحاكي أصل المشكلة. أصلاً، كيف يمكن فصل الخطة المالية عن الخطة الاقتصادية والإنمائية؟ وكيف تم احتساب الأرقام، فيما لا يزال رياض سلامة يمتنع عن تقديم جردة واضحة وشفافة وكاملة لموجوداته وأصوله بالليرة أو بالدولار، كما لا يزال يرفض التدقيق في أعماله وفي حسابات مصرف لبنان، وفوق ذلك، يستعين بالأميركيين للمحافظة على رجالاته في كل المؤسسات التابعة لمصرف لبنان وخارج مصرف لبنان أيضاً...
الحقيقة المُرّة أن الحكومة تواجه مصاعب كثيرة في هذا السياق. وهي إنْ لم تبادر الى تغيير كامل قواعد اللعبة ــــ بما في ذلك إبعاد كل من كان له صلة بالإدارة السابقة عن البحث ــــ وإذا لم يتوصل حسان دياب الى تفاهم واضح وحاسم مع حزب الله أولاً، ثم مع ثنائي نبيه بري ــــ جبران باسيل ثانياً، فلن يكون بمقدوره تحقيق اختراق أساسي، وهو الاختراق الذي تحتاج إليه البلاد من أجل الانتقال صوب مرحلة جديدة.
الكلام المحزن هو أن الوقائع التي سمحت بإطلاق سراح العميل عامر الفاخوري خشية من عقوبات أميركية، تمت إدارتها من قبل مسؤولين نافذين في السلطة الحالية. وهؤلاء لهم نفوذهم القائم والذي يمارس في ملفات التعيينات والخطة المالية. ومن وافق على بيع سيادته من خلال إطلاق سراح عميل في وضح النهار، لن يكون صعباً عليه بيع أصوله مرة جديدة.
مشروع الخطة المالية ليس صالحاً لشيء. حتى ما يعتبره البعض ثورة في مواجهة حيتان المال، لم يعد له معنى الآن. إنه مثل الذي يهاجم أميركا ولا يجرؤ على لفظ اسم عميل لها في لبنان. إنه مثل العبوس في العتمة ولا معنى له في هذه المواجهة الكبرى.
حسان دياب، لديك في لبنان من هم أكفأ وأكثر خبرةً وإخلاصاً من كل العاملين في لازارد وصندوق النقد. ارفع الصوت لتعرف أنهم ليسوا بعيدين عنك، وستجد عندهم العلاجات الحقيقية التي تناسب هذا الشعب المسكين، ودَعْكَ من كل ألاعيب الطبقة الفاسدة. الناس أقرب إليك منهم، فلا تخسر الناس!