قبَل أشهُر من اليوم، كانَ لسعد الحريري «لبنْ العصفور»، لو أرادَه، بِشرط البقاء في رئاسة الحكومة. آنذاك كانَت حكومتَه خطّاً أحمر لا يُفرَّط بِه. التوقيت والظرف اقتضيا ذلك: بلاد على حافة الانهيار المالي، تحتَها برميل من البارود الشعبي. من أجلِ ذلِك «جرّب» الرئيس نبيه بري معه كثيراً، وكادَ «ينشَف» لسان المسؤولين في حزب الله، وهم يُحاولون ثنيَه عن الاستقالة. أما هوَ، فاستساغَ فكرة العارِف بمقامِه وتدلّلا، مُحاولاً تكريس لعبة أنه حاجة للجميع ولا بديل منه، بالضرب على الوتر الطائفي والصراع على الصلاحيات، إلى أن أتت ساعة استقالته. وقعَ في شرّ رهاناتِه وصارَ خارجَ الحُكم.من طبائع الحريري، الشخصانية، أنه يلجأ دائماً إلى ردود فِعل انفعالية، ظناً منه بأنه سيجني منها شيئاً، غيرَ أنه وجدَ الحسابات هذه المرة مُختلفة. حينَ طُرِح ملف التعيينات المالية، وشعرَ بأن جماعته قاب قوسين من توديع مناصبهم، جنّ جنونه. تواصلَ مع عين التينة التي «سايرته» بداية، قبلَ أن يطلِق «تهديده» بالاستقالة من مجلس النواب. تهديدٌ لم تقابله عين التينة وحدها بالبرودة، بل حارة حريك أيضاً، إذ جاء الجواب «افعَل ما بدا لك»!

(مروان بوحيدر)

ليسَ لأحد أن يتوهّم أن الحريري سقطَ نهائياً من المُعادلة. لا يزال هو رئيس لتيار سياسي تتجاوز حيثيته الشعبية باقي المكونات السياسية داخل الطائفة السنية، فضلاً عن رمزية كونه ابن رفيق الحريري. لكن عصر الدلال انتهى، والفترة الانتقالية بين استقالة الحريري وتأليف حكومة حسان دياب، وصولاً إلى اليوم، مثّلت مرحلة عميقة لحزب الله حررته، ولو جزئياً، من مخاوِف مُسبقة تمكّنت منه في علاقته مع الحريري، أبرزها التوتير المذهبي. كما أن تجربة دياب في الحكم - ولو أنها ليسَت مثالية - لكنها في نظر حزب الله أفضل من تجربة حكومة الحريري الأخيرة، التي جاء ضرر استقالتها نافعاً. حتى إن أوساط فريق ٨ آذار تؤكد رغبة الحزب في بقاء حكومة دياب «حتى آخر ساعة من العهد». فما الذي تبدّل تجاه الحريري؟
لا أسباب تتعلّق بشخص الحريري نفسه، بل هي وليدة الظروف التي تبدّلت. حينَ كانَ حزب الله مُتمسكاً به، فعلَ ذلكِ انطلاقاً من عواملِ عديدة: أوّلها، الحفاظ على حكومة الوفاق الوطني التي كانَت قائمة، والإصرار على بقاء كل مكوّنات شريكة في القرار. وثانيها، واقِع الحريري الذي يقول إنه الأكثَر تمثيلاً في طائفتِه، والجهة التي تحظى بعلاقة مع الجميع في الداخل وفي الإقليم والعالم. أما العامِل الأهم، فكانَ التخوف من فراغ في الحكم خلال انتفاضة 17 تشرين، ولا سيما أن التفلّت الأمني كانَ بإمكانِه أن يودي بالبلاد إلى ما لا تُحمد عقباه، في موازاة دور سلبي مارسته المؤسسة العسكرية في البداية.
أما اليوم فالأمور مُختلفة. أزيلَت هذه المخاوف عن ظهر الحزب نوعاً ما. تألفت الحكومة، وتبدّل أداء الجيش، ولم يعد للحريري القدرة التي كانت له سابقاً على التحشيد المذهبي، ولو ان هذه القدرة لم تنتفِ تماماً. وترى المصادر أن أولوية الناس اليوم، من جميع الطوائف، هي الخروج من الازمة الاقتصادية الراهنة، لا الدفاع عن مكتسبات طائفية ومذهبية ثبت أنها لا تقدم ولا تؤخر في تحسين شروط العيش في البلد. وما تقدّم لا يعني أن اللبنانيين تخلوا عن انتماءاتهم المذهبية، إلا أنهم باتوا أقل انسياقاً خلف شعارات تبيّن أنها «لا تُطعِم خبزاً»، بالمعنى الحرفي للعبارة. كذلك فإن ما تغيّر هو أن لبنان دخل مرحلة الانهيار الاقتصادي، وباتت الأولوية، في نظر الحزب، للإنقاذ. والتعويل هو على القادرين على إخراج البلد من أزمته، لا على المنسحبين من «المعركة» إرضاءً للأميركيين وغيرهم من الذين يسهمون في انهياره.
«تهويلات الحريري ما عادَت تنفعَ في الابتزاز والحصول على تنازلات سياسية»


هذه الحكومة، في نظر قوى رئيسية في 8 آذار، «لن يُسمَح لأحد بتفجيرها تحتَ أي ظرف من الظروف»، لأن لا بديل منها، «لا الحريري ولا غيره»، ولأن «إدارتها في المرحلة السابقة يُمكن التعويل عليها». تقول مصادر 8 آذار إن عناصر القوة لهذه الحكومة هي في «عدم وجود بديل، وأن الحريري لن يكون بمقدوره العودة بعدَ أن استقال إرضاءً لمطالب الخارج بكسر الاتفاق مع حزب الله والتيار الوطني الحر»، مشيرة إلى أنه «لا أحد يُسقِط حكومة حسان دياب، إلا هو نفسه في ما لو قرّر الاستقالة»، ما يعني إغلاق الباب أمام الفراغ نهائياً. أما تجربة دياب في السلطة، وإن كانَ من المُبكِر الحكم عليها سلباً أو إيجاباً، «لكنها حتى الآن أثبتت بالتجربة أنها أكثر مسؤولية من إدارة الحريري». هذا ما يجعلها في نظر قوى 8 آذار «أهلاً للرعاية والدعم بمعزل عن التهويلات التي يسوقها الحريري، والتي ما عادَت اليوم تنفعَ في الابتزاز والحصول على تنازلات سياسية».