كان يمكن لهذه القصة أن تكون سيناريو لأحد الأفلام الهوليوودية، وأن يُكتب ملخّصها بالشكل التالي: «يروي هذا الفيلم قصة الشركة السويسرية كريبتو إيه جي، التي باعت معدّات لتشفير الاتصالات العسكرية والدبلوماسية لأغلب دول المعسكر الغربي، ولمدة ناهزت الـ50 عاماً. لكن، سراً، كانت هذه الشركة مملوكة لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، التي، بدورها، اطّلعت على كلّ ما وقع على مسمعها». كان الفيلم سيلقى نجاحاً باهراً، ولكن الصادم أن ما أمكن أن يكون فيلماً، ليس سوى الحقيقة.جاء أول استخدام للتشفير لأغراض عسكرية عندما حكم الرومان الأرض منذ أكثر من ألفي عام. احتاج القيصر حينها إلى وسيلة لإرسال المعلومات إلى قواته بشكل مكتوب، وبالتالي طوّر طريقة بسيطة ولكن فعّالة، تُسمى «الشيفرة البديلة»، تقوم على تغيير ترتيب حروف الأبجدية بمقدار ثلاثة لكلّ منها (مثلاً، بدلاً من أن يكون ترتيب «أ» 1 يصبح 4، وبذلك يصبح المقصود بحرف «الثاء»، «أ»). اليوم، يكشف تقرير مطوّل أعدّته صحيفة «واشنطن بوست»، بالتعاون مع التلفزيون الألماني «زد دي أف» ومحطة الإذاعة والتلفزيون السويسرية «أس أر أف»، كيف قامت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية عام 1970 بإنشاء شركة التشفير «كريبتو إيه جي»، في إطار «شراكة سرية للغاية» مع جهاز الاستخبارات الألماني «بي أن دي» التابع لألمانيا الغربية، عن طريق شركات مسجّلة في دول تُعدّ ملاذات ضريبية.
تربّعت «كريبتو إيه جي»، بعد الحرب العالمية الثانية، على عرش قطاع بيع تجهيزات التشفير، وقد باعت تجهيزات بـ«ملايين الدولارات» لأكثر من 120 بلداً، وبحسب «واشنطن بوست»، فإن قائمة الجهات التي تعاملت مع الشركة السويسرية تشمل إيران والمجالس العسكرية في أميركا اللاتينية والهند وباكستان والفاتيكان. سُمّيت هذه العملية بدايةً بالـ«تيزوروس»، ومن ثم تَغيّر الاسم إلى «روبيكون». ومنذ عام 1970، سيطرت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) ووكالة الأمن القومي (NSA) على جميع جوانب عمليات «كريبتو إيه جي»، حتى أنهما اتّخذتا قرارات التوظيف وتصميم التقنيات وتخريب الخوارزميات وتوجيه أهداف المبيعات. دائماً ما عمدت الشركة إلى صنع نسختين على الأقلّ من معدّاتها التشفيرية: نماذج آمنة سيتمّ بيعها إلى بعض الحكومات الصديقة، ونماذج مزوّرة تمّت هندستها بعناية لبقية العالم. وفيما أعجبت الحكومات الأجنبية بالأنظمة التي بدت متفوقة بشكل واضح على الأجهزة الميكانيكية القديمة، كان جواسيس الولايات المتحدة وألمانيا الغربية يستمتعون بقراءة كلّ الرسائل الدبلوماسية والعسكرية الصادرة من تلك البلدان. وعلى الرغم من أن تلك المعدات كانت متفوقة، لكن كانت هناك عوائق كبيرة: الاتحاد السوفياتي والصين مثلاً لم يكونا من زبائن «كريبتو إيه جي»؛ إذ بحسب التقرير، لم تثق تلك الدولتان بالشركة بسبب عمق تواصلها مع دول المعسكر الغربي. ولحلّ هذه المشكلة ولو جزئياً، تنصّتت الولايات المتحدة الأميركية على كلّ الدول التي اشترت الأجهزة وتواصلت مع موسكو وبكين، في محاولة للحصول على أكبر قدر من المعلومات.
لم تعلّق الاستخبارات الألمانية ولا الأميركية على تقرير «واشنطن بوست»


في عام 1981، كانت السعودية أكبر زبائن شركة «كريبتو إيه جي»، تليها إيران وإيطاليا وإندونيسيا والعراق وليبيا والأردن وكوريا الجنوبية. ولحماية موقعها في السوق، انخرطت «كريبتو إيه جي» ومعها أصحابها السرّيون في حملات تشويه دقيقة ضدّ الشركات المتنافسة، فضلاً عن استمالة المسؤولين الحكوميين برشاوى مالية. في إحدى المرات، أرسلت «كريبتو إيه جي» مسؤولاً تنفيذياً إلى الرياض، مع 10 ساعات «رولكس» في حقائبه. وقد قام هذا المسؤول بترتيب برنامج تدريبي للسعوديين في سويسرا، حيث كان «وقت الفراغ المفضل لدى المشاركين هو زيارة بيوت الدعارة» وعلى حساب «كريبتو إيه جي». عام 1986، وبعد قيام ليبيا بتفجير ملهى في برلين الغربية يعجّ بالقوات الأميركية، قُتل بسببه جنديان أميركيان، عرّض الرئيس الأميركي، رونالد ريغان، عملية التنصّت للخطر؛ إذ أمر قوات بلاده بشنّ ضربات على ليبيا بعد 10 أيام من التفجير. وفي خطابٍ ألقاه أمام البلاد قال إن الولايات المتحدة لديها دليل على أن تواطؤ ليبيا «مباشر، دقيق، ولا يمكن دحضه». وأضاف أن «الأدلة أظهرت أن السفارة الليبية في برلين الشرقية تلقت أوامر بتنفيذ الهجوم قبل أسبوع من وقوعه». أوضحت كلمات ريغان أن اتصالات طرابلس بمحطتها في برلين الشرقية قد تمّ اعتراضها وفك تشفيرها. لكن ليبيا لم تكن الحكومة الوحيدة التي تنبّهت إلى الأدلة التي قدمها ريغان. إذ أصبحت إيران، التي علمت أن ليبيا تستخدم أيضًا آلات التشفير من «كريبتو إيه جي»، تشعر بقلق متزايد في شأن أمان معداتها، إلا أنها لم تقم بتغيير المعدات إلا بعد مرور ست سنوات على الحادثة.
غالباً ما تجادل مسؤولو إدارة الاستخبارات الوطنية الألمانية حول رفض نظرائهم الأميركيين التمييز بين الخصوم والحلفاء، وتحارب الشريكان حول البلدان التي تستحق الحصول على الإصدارات الآمنة من منتجات «كريبتو إيه جي»، مع إصرار المسؤولين الأمريكيين بشكل متكرر على إرسال المعدات المزوّرة إلى أيّ شخص تقريباً، حليفاً كان أم لا. انتهت الحرب الباردة، وسقط جدار برلين، وباتت لألمانيا الموحدة حساسيات وأولويات مختلفة. لقد رأى الألمان أنفسهم أكثر عرضة لمخاطر عملية التشفير، وتولّدت لديهم خشية من أن يؤدي الكشف عن تورطهم إلى غضب أوروب، وبالتالي إلى تداعيات سياسية واقتصادية هائلة. في عام 1993، أوضح كونراد بورزنر رئيس إدارة الاستخبارات الوطنية الألمانية، لمدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية جيمس وولسي، أن الدعم من السلطات العليا في الحكومة الألمانية يتضاءل، وأن الألمان قد يريدون الخروج من شراكة «كريبتو إيه جي». في 9 أيلول، توصّل رئيس محطة الـ«CIA» في ألمانيا، ملتون بيردن، إلى اتفاق مع مسؤولي إدارة الاستخبارات الوطنية الألمانية لشراء أسهم ألمانيا مقابل 17 مليون دولار.
مع رحيلهم، سرعان ما انفصل الألمان عن المعلومات الاستخباراتية التي استمرت الولايات المتحدة في جمعها. ونقلت الصحيفة عن بورميستر (أحد الضباط في الاستخبارات الوطنية الألمانية) تساؤله عما إذا كانت ألمانيا لا تزال تنتمي إلى «هذا العدد الصغير من الدول التي لا يتنصّت عليها الأميركيون». قدّمت وثائق سنودن ما يجب أن يكون جواباً مقلقاً، حيث أظهرت أن وكالة الاستخبارات الأميركية لا تعتبر ألمانيا هدفاً فقط، بل تراقب أيضاً الهاتف المحمول الخاص بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. في تقرير لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية يعود إلى العام 2004 اطّلع عليه معدّو التحقيق، يتبيّن أن العملية المسمّاة «تيزوروس» ومن ثم «روبيكون» كانت «ضربة القرن» على صعيد العمل الاستخباري. كذلك تمكّن المعدون من الاطّلاع على وثائق جمعتها أجهزة الاستخبارات الألمانية. وبحسب صحيفة «واشنطن بوست»، لم تشأ وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ولا جهاز الاستخبارات الألماني الإدلاء بأي تعليق حول التحقيق، من دون أن ينفيا المعلومات الواردة فيه. من جهته، أكّد المنسّق السابق للاستخبارات الألمانية، برند شميدباور، للتلفزيون الألماني «زد دي أف»، أن «روبيكون» كانت بالفعل عملية استخبارية، مشيراً إلى أنها ساهمت في «جعل العالم أكثر أمناً». واعتبرت الشركة السويدية «كريبتو إنترناشونال» التي اشترت «كريبتو إيه جي»، بدورها، أن التحقيق «يثير القلق»، نافية وجود «أيّ رابط مع وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وجهاز الاستخبارات الألماني». والثلاثاء، أبلغت السلطات السويسرية وكالة «فرانس برس» أنها بدأت «استقصاء» حول الأمر في 15 كانون الثاني/ يناير.