لم يبرع أحد في تجسيد إيطاليا على مدى نصف قرن بدءاً من الحقبة الفاشية حتى بداية القرن الحادي والعشرين، كما فعل هو. إيتوري سكولا (1931 ــ 2016) «المايسترو» الذي رسمت أفلامه «بورتريه» لإيطاليا القرن العشرين، والتفاوت الطبقي، والمعاناة والندم، وأوهام اليسار الذي انتمى إليه، انسحب مساء الثلاثاء «بعدما تعب قلبه من الخفقان» وفق ما قالت زوجته وابنتاه لإحدى الصحف المحلية. قبل ذلك، وتحديداً في عام 2011، انسحب "الرفيق" من صناعة الأفلام لأنّه «يعجز عن التأقلم مع عالم سينما اليوم، كما كان يفعل في السابق بحب وفرح وخفة. هناك منطق للإنتاج والتوزيع لا يشبهني البتة».
معلم السينما الإيطالية منذ الستينات حتى نهاية القرن العشرين، يعتبر من الأوائل الذي صنّفوا ضمن فئة «الفتيان السحرة» في الفن السابع الإيطالي (فئة «خلقت» هوليوداً مع مبدعين من طراز مارتن سوكرسيزي، وفرانسيس فورد كوبولا). عكست أفلامه التأثيرات الاجتماعية في أعمال عمالقة السينما الإيطالية ما بعد الحرب مثل فيتوريو دي سيكا، وفيدريكو فيلليني وروبرتو روسيليني وأنطونيوني، فطعّم أسئلته حول السياسة والإنسانية والسينما بالكوميديا التي رافقت معظم أفلامه. «لقد أحببنا بعضنا كثيراً» (1974 ــ «سيزار» أفضل فيلم أجنبي عام 1977) مع نينو مانفريدي، ستيفانيا سانديريلي، فيتوريو غاسمان، وستيفانو فلوريس روى ثلاثين عاماً في تاريخ إيطاليا (1945 ــ 1975)، ويعد بحثاً في التيارات الاجتماعية التي أنتجتها الحرب، ووجّه من خلاله تحية إلى السينما الإيطالية المشغولة بتحولات ما بعد الحرب العالمية الثانية. و«قبيح، قذر وسيئ» (جائزة أفضل مخرج في «مهرجان كان» في عام 1976) كوميديا فجّة تدور في إحدى عشوائيات روما السبعينات المهددة بالتوحش العمراني الزاحف. أما سكان الحي، فيسترزقون من السرقة والدعارة وواقعون تحت رحمة الأزعر المستبد والأعمى الذي يجسده نينو مانفريدي أيضاً. أما «يوم استثنائي» (1977) مع الرائعين صوفيا لورين ومارشيللو ماستروياني، فيذهب بنا إلى ذروة الفاشية في إيطاليا.
رسمت أفلامه «بورتريه» لإيطاليا القرن العشرين، والتفاوت الطبقي، وأوهام اليسار الذي انتمى إليه

على مدى نصف قرن، كتب سكولا وأخرج أكثر من 40 فيلماً روائياً ووثائقياً، أي بمعدّل فيلم كل عام اخراجاً، فيما كتب سيناريو لأكثر من 90 فيلماً آخر. ابن الطبيب المولود في 10 أيار (مايو)1931 في قرية تريفيكو في الجنوب الإيطالي، درس المحاماة بدايةً، ثم اختار التفرغ كلياً لعالم السينما. يمكن فقط النظر إلى فيلمه «يوم استثنائي» (1977 ــ «جائزة الغولدن غلوب» كأفضل فيلم أجنبي) كي نفهم ماذا تعني السينما بالنسبة للرجل: أنتونييتا (صوفيا لورين) ربةُ منزلٍ بسيطةٍ وأم لستة أطفال تعيش في إيطاليا عام 1938 إبان حكم الفاشيين، تجلس في منزلها في انتظار عودة زوجها ــ المنتمي للحزب الفاشستي ــ من احتفالٍ في مناسبة زيارة الزعيم النازي أدولف هتلر إلى إيطاليا. لا تعرف أنتونييتا كثيراً عن السياسة. على جانبٍ آخر هي تهتم بجارها في السكن غابريللي (مارشيللو ماستروياني) مذيع الراديو الذي طرد من عمله لعدائه للفاشية. تحاول أنتونييتا إغراء غابريللي وإقامة علاقةٍ معه لسأمها من حياتها مع زوجٍ يخونها ولا يحبّها؛ لتكتشف أنّه مثلي الجنس. هذا الاكتشاف لا يمنع الاثنين من التقرّب من بعضهما، وحتى إقامة علاقة جنسية. يختتم الفيلم ــ على عادة أفلام سكولا- بنهايةٍ هي الأكثر واقعية: أنتونييتا تعود إلى المنزل وتبدأ بقراءة كتابٍ أعطاه إياه غابريللي («الفرسان الثلاثة» لإلكسندر دوما)، البوليس الإيطالي يلقي القبض على غابريللي ليلقى به في السجن، بينما يعود زوج أنتونييتا إلى المنزل كي ينجب طفلاً سابعاً منها.
لم تكن أنتونييتا في الفيلم إلا إيطاليا بحد ذاتها (أو الشعب الإيطالي)، فيما غابريللي هو «اليسار» الإيطالي الذي يحاول «توعية» الشعب، ولو أنّه بدا غريباً عنه في لحظةٍ ما، أو غير مقبول في إطارٍ آخر. ويأتي الزوج بمثابة الدولة والنظام «القمعي» الذي يطوّع الشعب لما يريده، ويحصل على غاياته مهما كان «رديئاً» في كل شيء. الثيمة نفسها تتكرر في فيلمه «قبيح، قذر وسيء» الذي يقدّم صورةً لعائلةٍ «إجراميةٍ» بسيطة، تعيش في منزلٍ واحد. إنه منزل ديكتاتوري يحكم فيه «قائدٌ» واحد، ومهما ازداد الدخل، فإن الكوخ الذي يسكنون به يبقى «كوخاً». لا يصرف جيا (نينو مانفريدي) أمواله إلا كما يحب، يحرم أطفاله كل شيء، ويغدقها على عشيقته. تحاول زوجة جيا التحضير لانقلابٍ عليه، لكنها تفشل، فيقرر جيا أن يحرق المنزل، لكن في الختام: يعود كل شيءٍ إلى مكانه الطبيعي، وبالتأكيد من دون أن يشعر أحدٌ بالرضى عما يحصل. يعود جيا لقيادة المنزل والعائلة، وتسكن زوجته وعشيقته تحت سقف واحد مع العائلة بأجمعها. هي صورة إيطاليا التي يحكمها «ديكتاتور» (وليس بالضرورة أن يكون موسوليني فقط) الذي يدمر كل شيء، ويفعل كل شيء، وفي النهاية مهما حصلت انقلابات وحكومات، تعود الأمور إلى ما كانت عليه. رؤية سكولا الذي انتمى إلى الحزب الشيوعي الإيطالي، انصبت أساساً جراء كونه قادماً من الجنوب الإيطالي الأكثر فقراً. ورغم أنَّ كثيراً من أفلامه كانت تحدث في روما، إلا أنَّ روح التمرد والثورة كانت ملازمة لآرائه وأفكاره السياسية. ولا ريب أنَّ أكثر أفلامه اقتراباً من فكرته تلك كان «لقد أحببنا بعضنا كثيراً» (1974 ــ الجائزة الذهبية في «مهرجان موسكو السينمائي الدولي ــ 9»). يتناول الفيلم علاقةً بين ثلاثة أصدقاء: جياني، أنطونيو ونيكولا. يحارب الثلاثة النظام الفاشي في إيطاليا آنذاك حتى سقوطه، بعد ذلك تدور الحياة بهم. يلتقي الأصدقاء بعد تلك المرحلة بسنين طوال، متحدثين عما يمرون به فيتناول أنطونيو حياته –حيث يعمل في مجال البناء- بهدأةً شديدة، مؤكداً أنه لا يندم على شيء، فهو تزوج حب حياته، وظل محافظاً على مبادئه وإن لم يحقق «ثروةً» من أي نوع. جياني الذي أصبح يعمل في القضاء، يعيش في روما وحيداً بعدما قضت زوجته؛ أما نيكولا وهو محور القصة، فقد كان الأذكى بين الثلاثة. ورغم أنّه حاول أن يحقق ثروةٍ من خلال طرقٍ عدة، إلا أنّه لم يستطع نهائياً ذلك، فتحول إلى الكتابة مقابل «المال»، من يدفع أكثر، يكتب له أكثر. من يشاهد الفيلم يمكنه بسهولةٍ بالغة أن يلاحظ أنَّ إيتوري المفكر والمثقف، كان يتحدث دائماً من خلال شخصية أنطونيو، صاحبة المبادئ والأفكار التي لم تتنازل عنها أبداً، وحتى حينما نشاهد نيكولا يحاول ضربه، يبقى مصمماً على ما يقوله. كان تناول سكولا لتلك الشخصيات التي أفرزتها نهاية الحرب في المجتمع الإيطالي دقيقاً لدرجة أنه يمكن تطبيقه على أي مجتمعات خارجةٍ من حروبٍ طاحنة: المثقف القابل للبيع والشراء، التائه الذي يعمل داخل النظام الذي يقبل بأي شيءٍ يفرض عليه، والمناضل القديم الذي يدفع ثمن مبادئه فيبقى –وإن كان سعيداً- من دون مكاسب مادي. في مقابلة معه نشرت في صحيفة «لو موند»، قال سكولا: أصنع الأفلام ذاتها تقريباً. لطالما انشغلت بنظام العزلة والتفاوت الطبقي. أنطلق دوماً من فكرة وليس فرداً لأحولها إلى كوميديا فجة لأنني أرى أنّها طريقة نبيلة وتراجيدية في عكس مشكلاتنا المجتمع المعاصر».




تحية إلى فيلليني
آخر أفلام سكولا كان تحية إلى معلم آخر هو فيدريكو فيلليني في وثائقي بعنوان «كم غريب أن تدعى فيدريكو» (2013) فيما أنجزت ابنتاه باولا وسيلفيا وثائقياً عن والدهما عام 2015 بعنوان «بالضحك والتنكيت».