لن يتمكّن دونالد ترامب وزمرته من نسيان اسم الفريق الشهيد قاسم سليماني بسرعة. الرئيس الأخرق قال في أحد مهرجاناته الأخيرة، مخاطباً جمهوره من «الرقاب الحمراء»، إنهم كلّما رأوا جنوداً سابقين مبتوري الأيدي أو الأرجل في شوارع المدن الأميركية، عليهم أن يتذكروا أن عبوات سليماني هي التي تسبّبت بذلك. لن تنسى نخب المستوطنة البيضاء الكبيرة، ولا شعبها، القائد الذي دفّعهم من لحمهم ودمهم ثمن استباحتهم لدماء «الآخرين»، ولبلادهم وثرواتهم. ومع توالي «الأخبار غير السارّة» في الأيام الأخيرة بالنسبة إلى زمرة المعتوهين، من التظاهرة المليونية في بغداد، مروراً بقصف السفارة الأميركية فيها، وصولاً إلى إسقاط الطائرة الأميركية في أفغانستان، يرى هؤلاء شبح سليماني يطوف فوق مسرح عمليات يشمل الإقليم برمّته. ربما بدأ الرئيس الأميركي وزمرته، بإدراك العواقب الوخيمة التي ستترتب على قرار اغتيال قائد بهذا الوزن، أو من المحتمل أن يتوصلوا إلى مثل هذه القناعة بعد وقوع عمليات أخرى مشابهة. الأكيد هو أن «العقلاء» في النخبة الأميركية، بحسب مقال لأوري فريدمان على موقع «ذي اتلانتيك»، وكذلك قطاع واسع من الأميركيين ومن المرشحين الرئاسيين «التقدميين»، يدفعون في اتجاه الحد من الوجود العسكري في الشرق الأوسط. واذا كان الرئيس الأميركي الأسبق، دوايت ايزنهاور، هو من فتح «صندوق باندورا»، وفقاً لتعبير الرئيس نفسه، أي ورّط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، عبر التدخل عسكرياً في لبنان ضد ثورة 1958، فإن «العديد من المسؤولين الأميركيين اليوم يخشون النتائج الكارثية لإبقاء هذا الصندوق مفتوحاً»، برأي فريدمان. معركة حاسمة تُخاض في منطقتنا، تثير نقاشاً جدياً في الولايات المتحدة، وستقرّر مآلاتها مستقبل «الوجود الأميركي» فيها، أي الاحتلال والحروب والهيمنة العاتية عليها وما نجم عنها من كوارث ودمار. لكنّ تيارات سياسية عربية بعينها، وعدداً من المثقفين، يصرّون على اعتبارها «حرب الآخرين على أرضنا»، كما عرّف البعض الحرب اللبنانية في زمن مضى. الطبيعة المصيرية لهذه المعركة تفرض الرد على أطروحات تيار «لا أميركا ولا إيران» المذكور، عبر تثبيت جملة من الحقائق تتعلق بخلفياتها، وبأسباب العداء الغربي العميق لإيران، لنخلص إلى تحديد موقعنا الصحيح، المنسجم مع مصالحنا وتطلعاتنا كعرب، منها.
حرب أميركا المديدة علينا وعلى إيران
سيسارع الكثيرون إلى القول بأن ما سيلي، هو بديهيات يعرفها أي مطّلع على شؤون السياسة الدولية منذ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لكن التذكير بالبديهيات ضرورة قصوى عند ملاحظة انتشار السرديات المضلّلة التي تروّجها أجهزة الدعاية الأيديولوجية الأميركية والغربية، عمّا يجري في منطقتنا والعالم في أوساط محسوبة تاريخياً على الصف الوطني. إن أردنا تلخيص السياسة الخارجية الأميركية حيال دول الجنوب عامة، فإن أدقّ توصيف لها هو ذلك الذي قدمته الكاتبة الهندية أرونداتي روي، عندما قالت إنها حلّت في مكان القوى الاستعمارية الأوروبية في قتل الشعوب الملوّنة. يصحّ هذا الكلام، بشكل خاص، في آخر ثلاثة عقود على الفضاء العربي والإسلامي الذي يتعرّض لمعاملة استثنائية بكل ما للكلمة من معنى. هل يذكر جميع الداعين للتركيز على أولوية التغيير الداخلي، و«معالجة مشكلاتنا بدلاً من توجيه التهمة دائماً إلى الخارج»، عدد العراقيين الذين قتلتهم الولايات المتحدة منذ عام 1991؟ إذا جمعنا ضحايا الحرب التي شنّت على العراق بذريعة تحرير الكويت، عام 1991، إلى أولئك الذين قضوا نتيجة للحصار الإجرامي الذي فرض عليه حتى عام 2003، ومن ثمّ الذين سقطوا خلال الغزو والاحتلال الذي تعرّض له، سيتراوح عددهم ما بين 3,5 و5 ملايين عراقي، استناداً إلى دراسات مجلة «ذي لانسيت» وبرنامج «إحصاء الجثث في العراق»، وإلى العديد من التقارير التي أعدّتها منظمات وهيئات مدافعة عن حقوق الإنسان. لقد قامت الولايات المتحدة بـ«محو العراق» الذي عرفناه قبل الغزو، في سياق حربها المديدة على العرب وتطلعهم إلى الاستقلال والوحدة، والتي شنّت منذ ستينات القرن الماضي ضد مصر الناصرية ولم تنته إلى الآن. وقد وصلت الصلافة الأميركية إلى ذروتها، مع رفض إدارة ترامب سحب قواتها من العراق رغم طلب رئيس الوزراء العراقي منها ذلك، بعد تصويت البرلمان على قرار لإخراج هذه القوات، ولم تتردّد بتوعّد الملايين التي نزلت إلى الشوارع للمطالبة برحيلها. المسؤول الأول عمّا آلت اليه أحوال العراق من فساد ومحاصصة طائفية وإفقار مروّع لشعبه، هو الاحتلال الأميركي الذي دمّر الدولة وأسّس نظاماً سياسياً يقوم على المحاصصة والفساد. مهما كان الموقف من إيران و/أو الأحزاب والتنظيمات المتحالفة معها، ألا تشكل المواجهة المحتدمة حالياً بينهم وبين المحتل الأميركي مناسبة بنظر أي وطني عراقي أو عربي للنضال ضد الأخير لطرده من بلاد الرافدين، كمقدمة لدحره عن المنطقة؟ لا حاجة إلى التذكير بالدور المركزي الذي لعبته الولايات المتحدة ووكيلها الإسرائيلي في حرمان العرب من حقهم بتقرير المصير كأمة ونحن أمام فرصة تاريخية لتصعيد النضال لكسر منظومة الهيمنة التي فرضت عليهم منذ عقود طويلة. وأهم من يعتقد بأن بإمكان شعوب المنطقة الخروج من الحفرة التي رُموا فيها نتيجة للتجزئة وزرع إسرائيل في قلبها والاستتباع، وإطلاق دينامية للتنمية وبناء نظم سياسية تمثل هذه الشعوب وتعمل على تحقيق تطلعاتها، من دون كسر منظومة الهيمنة. والسبيل إلى ذلك، تغيير موازين القوى الميدانية والعسكرية الذي يسعى إليه محور المقاومة وفي قلبه إيران.

دور إيران في مواجهة إسرائيل سبب عداء الغرب لها
يكفي أن يصرّح مسؤول إيراني غداً بأنّ إيران مستعدة أن تقبل الحل الذي ترتضيه السلطة الفلسطينية للصراع مع إسرائيل، حتى ولو أنّ هذا الحل لم يعد مقبولاً من الإنجيليين الصهاينة المسيطرين داخل الإدارة الأميركية، لكي يتغيّر الموقف الأميركي والغربي منها. العداء الأميركي والغربي المسعور لإيران، لا مثيل له في مواقف هذه الأطراف من أية قوى أخرى في العالم. قامت الدنيا ولم تقعد على برنامج إيران النووي السلمي، بينما لم نشهد جنوناً شبيهاً تجاه القنبلة النووية الباكستانية مثلاً، رغم الشعبية الواسعة التي تحظى بها التيارات السلفية الجهادية في هذا البلد، بما فيه في أوساط الاستخبارات والجيش. ما يفسر هذا الأمر هو وظيفة القنبلة الباكستانية الهادفة إلى خلق توازن رعب مع الهند قبل أي طرف آخر. أما إيران، ورغم قبولها بالاتفاق النووي المجحف بحقها، فبقيت في دائرة الاستهداف وأصبح مشروعها الباليستي يعتبر مصدر التهديد الرئيسي للأمن والاستقرار في الإقليم وحتى في العالم، لأنه يفرض توازن رعب مع إسرائيل. مجلة «ذي إيكونوميست»، في عددها الصادر في 18 من الشهر الحالي، أشارت إلى التطوّر الكبير الذي أظهرته الضربة الإيرانية لقاعدة عين أسد الأميركية في مستوى دقة الصواريخ الإيرانية القصيرة المدى، لأنّ ما يسميه الخبراء «دائرة الخطأ المحتمل»، قد ضاق قطرها من كيلومترين، في الفترة التي أطلق فيها العراق صواريخه على إسرائيل عام 1991، إلى 5 أمتار مع ضربة عين أسد. وأكد كريستوفير كلاري، وهو خبير قابلته المجلة، أن «امتلاك إيران للصواريخ الدقيقة سيجعل أية خطة حرب أميركية أكثر صعوبة للتنفيذ. لن يستطيع البنتاغون أن يجمع قواته في الموانئ والمطارات والقواعد المنتشرة في المنطقة، كما فعل قبل حربَيه على العراق في عامَي 1991 و2003». إنّ تطوير تكنولوجيا الصواريخ من قبل إيران، ومدّ حلفائها بها ومساعدتهم على تصنيعها في بلادهم، إضافة إلى التحولات التي شهدتها الحروب المندلعة في الإقليم في السنوات الماضية لمصلحة محور المقاومة، هي عوامل تسريع لعملية التغيير التدريجية، ولكن المستمرة في موازين القوى. هذا هو الدافع لهلع الإسرائيليين والأميركيين، ولاعتمادهم سياسة الحرب الهجينة تجاهها، التي قد تنزلق إلى حرب مفتوحة ومروّعة. إيران آخر دولة في العالم تقف معنا في خندق المواجهة الميدانية ضد إسرائيل، وتساهم كمياً ونوعياً في مراكمة وتطوير قدراتنا ضدها. الغريب أن بعض القوى التي كانت ترفض أي نقد لموقف الاتحاد السوفياتي من التسوية السلمية للصراع مع إسرائيل، بحجة دعمه السياسي والعسكري لدول وأطراف عربية وفلسطينية وتفيض إطراء على أي موقف أوروبي يقرّ بأن للفلسطينيين «حقوقاً»، تهاجم اليوم إيران، رغم كلّ ما تتعرّض له، وما يمكن أن تتعرّض له من أهوال في ظل الاحتدام الراهن للصراع، بسبب موقفها المبدئي من قضية فلسطين. والحقيقة، هي أن هذه القوى لم تعد تعتبر قضية فلسطين أو النضال ضد الهيمنة الإمبريالية أولوية، وهي قدمت عليها أولويات أخرى. أما المعنيون بقضية فلسطين، وبالتحرر الحقيقي والوحدة والنهضة، وشرطهم الأول والأساسي كسر منظومة الهيمنة الأميركية ــ الإسرائيلية قبل أي شرط آخر، فلا خيار أمامهم سوى المشاركة الكاملة في معركة المصير الواحد الدائرة اليوم.