انتهى مؤتمر برلين حول ليبيا، الأحد، بإصدار وثيقة نهائية حملت دعوات إلى طرفَي النزاع الليبي للالتزام بالهدنة والانخراط في مسارات حلّ سلمية برعاية الأمم المتحدة، إضافة إلى إعلان الدول المشاركة التزامها بعدم دعم المتقاتلين بالسلاح. لكن لا يبدو أنه ستكون للوثيقة آثار فعلية، بالنظر إلى مؤشرات سلبية عديدة، على رأسها إيقاف إنتاج النفط في عدد من المواقع المهمة، واستمرار طرفَي الصراع في الحشد العسكري واستقبال الدعم الخارجي.انتهى «مؤتمر برلين»، ليبدأ ما سمّته الوثيقة النهائية الصادرة عنه «مسار برلين» الذي يحوي عدداً من الالتزامات والدعوات. كما كان متوقعاً، نجح المؤتمر من الناحية الشكلية، حيث حضرت جميع الوفود المدعوّة، باستثناء تونس التي اعتذرت لتأخر وصول الدعوة إليها بعد إقصائها من المراحل التحضيرية التي جُهّز خلالها البرنامج وصيغت الوثائق. لكن، على رغم الحضور الدولي، رفض المشير خليفة حفتر، ورئيس حكومة «الوفاق» فائز السراج، الجلوس إلى طاولة واحدة، واكتفى كلاهما، رفقة الوفود المرافقة، بعقد جلسات منفردة مع ممثلي الدول الحاضرة، مع أن وجودهما في المؤتمر شكلي في الأصل، إذ لم يشاركا في اجتماعات اللجان.
أما على مستوى حسابات الدول، فبدت رغبة الدول الأوروبية واضحة في البروز بشكل أكبر في الملف الليبي. عن طريق «مؤتمر برلين»، سعت أوروبا إلى إعادة تفعيل دورها، بعد أن سُحب منها البساط على حين غرّة من طرف تركيا وروسيا القادمتين حديثاً إلى الساحة الليبية. ومع ذلك، كان قلق إيطاليا واضحاً من تراجع دورها كدولة تعتبر أن ليبيا، مستعمرتها السابقة، ضمن مناطق نفوذها، فيما سعى الرئيس الفرنسي إلى إظهار أنشطته مع الوفود داخل قاعات الاجتماعات. وليس من الصدفة أن تحتضن ألمانيا المؤتمر، فهي كطرف يدّعي الحياد تسعى إلى «توحيد صوت أوروبا» وفق ما جاء على لسان المستشارة أنغيلا ميركل، أي بعبارة أخرى تخفيف حدّة التنافس بين روما وباريس.
لناحية محتوى الوثيقة النهائية للمؤتمر، فقد شملت 55 فصلاً، بعضها يسعى إلى إحياء الوضع السابق للحرب وإصلاح بعض المؤسسات، فيما يركّز بعضها الآخر على تحجيم الدعم العسكري الخارجي وتركيز لجان متابعة. قُسّمت الوثيقة إلى سبعة محاور هي وقف إطلاق النار، حظر التسليح، العودة إلى المسار السياسي، إصلاح القطاع الأمني، الإصلاح الاقتصادي والمالي، واحترام القانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان والمتابعة. دعت الوثيقة إلى التمسك بوقف إطلاق النار والعمل على ترسيخه عبر إخراج الأسلحة الثقيلة من المناطق السكنية، وتركيز لجان متابعة تقنية تتبع الأمم المتحدة، إضافة إلى تفعيل الحوار حول توحيد المؤسسة العسكرية والأمنية بناءً على نتائج الاجتماعات التي احتضنتها القاهرة خلال أعوام سابقة. وتعهّدت الدول المشاركة بعدم إرسال أسلحة إلى طرفَي القتال، والامتناع عن المشاركة في الحرب عبر القصف الجوي، تطبيقاً لقرار مجلس الأمن الدولي حظر التسليح. أما الإصلاح الاقتصادي والسياسي، فهما، على غرار إصلاح المؤسسة العسكرية، جزء من خطة المبعوث الدولي، غسان سلامة. وفي هذا الإطار، دعت الوثيقة إلى تفعيل الحوار، عبر تشكيل لجان تتناول موضوع التوزيع العادل للثروة، والسعي إلى تعديل صيغة المجلس الرئاسي وحكومة «الوفاق» المرتبطة به حتى تنال ثقة البرلمان. وهو ما بدأ سلامة، أمس، التمهيد له بالفعل، عبر إرسال دعوات إلى نواب من شرق البلاد وغربها (في البرلمان والمجلس الأعلى للدولة) لعقد اجتماع معهم في جنيف نهاية الشهر الجاري.
خُرقت الهدنة أمس عبر إطلاق قذائف وتبادل إطلاق نار وإن بشكل محدود


لكن دعوات الإصلاح هذه تهمل عدداً من المعطيات المحورية. إذ في خلال الأعوام الماضية، وبينما لم تكن حينها هناك حرب قائمة ولا تدخلات خارجية بهذا الحجم، فشلت الاجتماعات التي عُقدت لتوحيد مؤسسات البلاد، فما الذي قد يجعلها تنجح الآن؟ وماذا عن تمترس الفرقاء الليبيين وراء مواقف غير قابلة للتبدّل؟ وما هو المعطى الجديد الذي سيُضفي مرونة على تعاملاتها؟ لا تُقدّم الوثيقة أجوبة على تلك التساؤلات. أما لجنة المتابعة الدولية التي أعلنت عنها الوثيقة النهائية، فهي متفرّعة إلى قسمين: لجنة تتكوّن من كبار المسؤولين تجتمع مرة كلّ شهر مع المبعوث الخاص لتقييم تطبيق التزامات الدول، وأربع مجموعات عمل تقنية تشمل خبراء وتعقد اجتماعات مغلقة مرتين في الشهر برئاسة ممثل عن الأمم المتحدة لتقييم عوائق تطبيق بنود الوثيقة وتشارك المعلومات وتنسيق العمل وتقديم الدعم للمنظمة الأممية. المشكلة في هذا التوجه هو عدم توفير آلية محاسبة لِمَن يخترق تعهّده. صحيح أن تصريحات مسؤولي الأمم المتحدة تتحدث عن طرح المخالفات على مجلس الأمن، إلا أن قرار الحظر الذي فرضه المجلس يُخرَق بشكل يومي وفق ما هو موثّق في تقارير لجنة الخبراء المكلّفة مراقبة تطبيق القرار، من دون اتخاذ أيّ إجراء مقابل، وخصوصاً أن الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا تعيق إصدار بيانات إدانة لداعمي طرفَي النزاع.
أكثر من ذلك، تشير المعلومات إلى خرق دولة الإمارات لالتزامها بعدم تسليح المتحاربين أمس، أي بعد يوم واحد من المؤتمر. إذ أفادت معطيات لمواقع مختصة في رصد تحركات الطائرات بانطلاق طائرتَي شحن عسكريتَين من طراز «إليوشن» من الإمارات ونزولهما في بنغازي شرق ليبيا، وهما تحملان بالتأكيد عتاداً عسكرياً لقوات حفتر. علاوة على ما تقدّم، وعوض التزامه بالاجتماعات المقرّرة حول الإصلاح الاقتصادي، دفع محور حفتر، على نحو غير رسمي، القبائل الموالية له في شرق وجنوب غرب ليبيا إلى إغلاق مؤسسات إنتاج النفط وموانئ تصديره احتجاجاً على احتكار حكومة «الوفاق» في طرابلس عوائده. وأعلنت «المؤسسة الوطنية للنفط»، أمس، حالة «القوة القاهرة» في حقلَي «الشرارة» و«الفيل» جنوب غرب البلاد بعد إغلاقهما من طرف محتجّين، بعدما حمّلت، في بيان السبت، مسؤولين عسكريين يتبعون حفتر مسؤولية غلق أكبر موانئ تصدير النفط.
في الجانب العسكري، خُرقت الهدنة أمس عبر إطلاق قذائف وتبادل إطلاق نار وإن بشكل محدود، وتبادل طرفا النزاع الاتهامات بالمسؤولية. وصمدت حتى الآن الهدنة الهشّة في جنوب طرابلس، وتعمل روسيا وتركيا على ترسيخها عبر عقد اجتماع آخر قريباً في موسكو لمحاولة جعل حفتر يوقع على الاتفاق الرسمي لوقف إطلاق النار، بعد رفضه ذلك في الاجتماع الأخير.