أثبتت محطات قريبة وبعيدة أنّ إسرائيل أبعد ما تكون عن فهم واقع الساحة الإيرانية والمعادلات التي تحكم سياساتها الداخلية والخارجية. ومع أنها تتمتع بمستوى استخباري ومهني متميّز، فإنها أظهرت قصوراً في فهم توجّهات وصلابة القيادة الإيرانية وحجم التفاف الشعب حول النظام الإسلامي. برز ذلك منذ ما قبل انتصار الثورة، واستمر في جميع المحطّات المفصلية التي مرّت بها إيران والمنطقة، وصولاً إلى الاتفاق النووي وسياسة «الضغوط القصوى» التي انتهجتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وما تلاها من تطوّرات أمنية في منطقة الخليج. وهو ما دفعها إلى الإقرار بنجاح إيران في مفاجأة جميع القوى الإقليمية والدولية المعادية لها.مع ذلك، لا ينتقص ما تقدّم من ضرورة الإطلالة على ما يسود في كيان العدو من تقديرات تتصل بتطورات بيئته الإقليمية، وما تنطوي عليه من تهديدات وفرص. وهو ما تناوله «معهد القدس للإستراتيجية والأمن» الذي قدَّر أن تشهد المواجهة مع إيران خلال العام المقبل تطوراً وتصعيداً على خلفية المسارين النووي والإقليمي. عَكَسَ هذا التقدير إقراراً مباشراً بفشل الرهان على الولايات المتحدة في ردع الجمهورية الإسلامية عن مواصلة المسارات التي شهدناها خلال العام. ورأى المعهد أن «هناك معقولية متزايدة... بدءاً من منتصف 2020 لاحتمال نشوب مواجهة جرّاء زخم الأنشطة الإيرانية لمراكمة مادة انشطارية»، من دون أن يستبعد ما أسماه «احتمالاً إشكالياً باستئناف المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران».
أوصى المعهد، مقابل هذه التقديرات، بضرورة «الاستعداد العسكري لمعالجة إسرائيلية مستقلّة»، لمواجهة سيناريو تقدم البرنامج النووي الإيراني، إضافة إلى «ضرورة التنسيق الكامل مع صنّاع السياسة في الولايات المتحدة» في كلّ ما يتعلق ببلورة المطالب التي ينبغي طرحها أمام إيران مع بدء المحادثات المفترضة. ومن الواضح أن الدعوة لبلورة خيار عسكري مستقل تكشف عن الشكوك التي تسود في واشنطن إزاء المدى الذي يمكن أن تبلغه الولايات المتحدة في مواجهة إيران، وهو ما سيفرض عليها تحديات غير مسبوقة في مواجهة التهديدات المتصاعدة على المستوى الإقليمي.
وردت هذه التقديرات في سياق وثيقة تحمل عنوان «توقّعات 2020: التحديات والفرص أمام إسرائيل»، قدَّمها المعهد الذي يجاهر بانتمائه اليميني، ويضم عدداً مهماً من كبار الباحثين في كيان العدو، متحدثاً عن التطورات المحتملة في البيئة الاستراتيجية لإسرائيل في السنة المقبلة. وانطلق في تقديراته المتصلة بإيران من فرضية تواصل وتصاعد الضغوط الأميركية القصوى، وأن إيران لن تبقى مكتوفة الأيدي إزاء ذلك، بل ستواصل وتُصعِّد ردّها على المستويين النووي (برنامجها) والإقليمي في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية. وأشار التقدير إلى أن «الضغوط القصوى» التي تعتمدها واشنطن ستتواصل، وستساهم في تقويض الاقتصاد الإيراني، وتضعه في «ضائقة أخطر من أي وقتٍ سبق». وربط ذلك برفض إيران الخضوع للإملاءات الأميركية «طالما (مرشد الجمهورية الإسلامية السيد علي) خامنئي مصمّم على عدم العودة إلى طاولة المفاوضات».
انطلاقاً ممّا تقدّم، يبدو أنهم في المعهد يتجاهلون حقيقة أن طهران تجاوزت مرحلة الصدمة، واحتوت مفاعيلها الخطيرة المفترضة، وأنها برغم الصعوبات القاسية التي يواجهها الاقتصاد، فإن قيادتها تتشدّد في تمسكها بثوابتها النووية والصاروخية والاستراتيجية، وترفض تقديم أي تنازل في هذا المجال. مع ذلك، يقدّرون أن إيران لن تبقى أيضاً منكفئة عن المبادرة والرد في مواجهة الضغوط الأميركية المتصاعدة. هذه الرؤية شكّلت منطلقاً لتقدير أن إيران ستواصل «خطوات رد تحدّ، قوية»، كما قدَّر المعهد أن «جرأة حرس الثورة وقوات القدس ستزداد». وينسحب مفهوم سياسة الرد أيضاً على الاعتداءات الإسرائيلية في الساحة السورية، إذ أن «الاحتكاك بين إسرائيل وإيران في سوريا يمكن أن يتصاعد إلى مواجهة واسعة النطاق».
في المقابل، عمد المعهد إلى محاولة استشراف ما قد يدفع إيران للعودة إلى طاولة المفاوضات، ورأى أن ذلك يمكن أن يتم في حال حدوث «أزمة عميقة في إيران، أو احتمالات أكيدة لفوز ترامب في الانتخابات الرئاسية». لكن لم تناقش خلاصة التقدير مستوى أرجحية هذا الاحتمال رغم إمكانية طرحه كسيناريو مفترض. وهم في تل أبيب يراهنون على أن تدفع الأزمة العميقة القيادة العليا في طهران إلى المفاوضات لرفع العقوبات مقابل تقديم تنازلات تتصل ببرنامجها النووي وخياراتها الإقليمية. المفهوم نفسه افترضه التقدير أيضاً في حالة إعادة فوز ترامب، انطلاقاً من أن ذلك يعني استمرار العقوبات وتصاعدها، ويضع الجمهورية الإسلامية أمام خيارات صعبة جداً.
مقابل هذه الضغوط والرهانات الأميركية ـــ الإسرائيلية، لفت المعهد إلى أن إيران ستواصل ما «إفراغ الاتفاق النووي من مضمونه»، وإمكانية دفع البرنامج النووي إلى الأمام بصورة دراماتيكية. ينطوي مضمون هذا التقدير على تقديرات أو معلومات متلازمة معه، ترى أن أوروبا تتبع سياسة المناورة التي تنتهجها من دون أن تنفّذ ما سبق أن التزمته للجمهورية الإسلامية بموجب الاتفاق النووي. ويستند أيضاً إلى تقدير باستنفاد سياسة الرهان على الاتصالات التي تنتهجها الحكومة الإيرانية على هذا المسار. في ضوء ذلك، ستنعدم المبررات التي دفعتها، حتى الآن، إلى التريّث في الإقدام على خطوات أشد وقعاً على الأطراف الدولية. ويحضر في السياق نفسه،إدراك الباحثين في «معهد القدس» أن إيران غير مردوعة لا بفعل الضغوط ولا بالتهديدات، سواء تلك الصادرة من تل أبيب أو واشنطن، وهو ما يعني أن المسار النووي سيتواصل وسيكون تصاعدياً وإن بوتيرة مدروسة ومضبوطة.
أما في السياق الداخلي الإسرائيلي، ومن زاوية ذات صلة، حذّر المعهد من تداعيات الوضع الحكومي في إسرائيل المتّسم بحالة اللايقين، وتأثيره في القدرة على المناورة في مواجهة التهديدات الماثلة وتلك المقبلة في ضوء سرعة التحولات الإقليمية.