دخلت العلاقات التركية ــــ الأميركية، في الآونة الأخيرة، مسارات متعددة من التعاون والتوتر في الوقت نفسه. فمن جهة، يراهن الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، على العلاقات الشخصية المتنامية مع نظيره الأميركي، دونالد ترامب. ومن جهة ثانية، يزداد حجم الضغوط والعقوبات من «الدولة العميقة» والكونغرس الأميركي على تركيا عسكرياً واقتصادياً. وقد شهدت معظم القضايا العالقة بين الطرفين توترات؛ أبرزها:1ــــ الموقف من عملية «نبع السلام»: في ظلّ التهديدات التركية المتزايدة في نهاية الصيف الماضي، وافق ترامب على عملية التدخل التركي في شمال سوريا، وأرسل لذلك نائبه مايك بنس ومعه وزير خارجيته مايك بومبيو إلى أنقرة في 17 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، حيث أبرما اتفاقاً مع أنقرة يتيح لها التدخل وإقامة منطقة آمنة. لكن الكونغرس الأميركي، بجناح مجلس النواب الذي يسيطر عليه الديموقراطيون، فرض في 29 تشرين الأول الماضي عقوبات اقتصادية على تركيا ربطاً بعملية «نبع السلام» وكلّ من خطط لها ونفذها. وفي مطلع الأسبوع الماضي، أقرّت لجنة الشؤون الخارجية التابعة لمجلس الشيوخ، بغالبيته الجمهورية، القانون المذكور بغالبية 18 مقابل أربعة أصوات، لينتظر إقراره في نصّ موحّد في الجمعية العامة للمجلس، وهو قرار مشترك بين الديموقراطيين والجمهوريين. يستطيع الرئيس الأميركي وضع «الفيتو» على القانون عندما يصل إليه، لكن المناخ المعادي لتركيا يطغى على أجواء الكونغرس.
2ــــ قانون «الإبادة الأرمنية»: مثال آخر على التناقض بين البيت الأبيض والدولة العميقة. فبعدما وافق مجلس النواب في 29 تشرين الأول الماضي على اعتبار أحداث 1915 «إبادة»، وبغالبية ساحقة جداً بلغت 405 مقابل 11 صوتاً، مرّ القرار بالإجماع في مجلس الشيوخ في الثاني عشر من الشهر الجاري، في سابقة هي الأولى من نوعها، بعد ثلاث محاولات فاشلة أعوام 1974 و1984 و1990، كان أكثرها جدية في العام الأخير حيث فشل قرار الاعتراف بالإبادة بغالبية 51 مقابل 48 صوتاً. على رغم ذلك، أعلن ترامب أنه لن يعترف بالقرار، ولن يعترف بـ«الإبادة الأرمنية». لكن هذا لا يلغي قلق تركيا من أن الإجماع في مجلسي النواب والشيوخ على القرار يشكل عامل إزعاج كبير لها، ويظهر حجم العداء المتزايد في واشنطن ضدّها. وستكون تركيا في وضع أكثر صعوبة فيما لو شدّد مجلسا النواب والشيوخ من جديد على القرار وبأكثر من الثلثين؛ عندها يُلزم الدستور رئيس البلاد الاعتراف بالقرار.
لم تتأخر أنقرة عن إظهار أوراق قوتها في مواجهة التهديدات والضغوط الأميركية


3ــــ مسألة «أس 400» و«أف 35»: تبرز هذه القضية كأحد أكبر التهديدات التي تثير استياء أنقرة. وقد عمل الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، خلال زيارته لواشنطن في الـ 13 من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، على إيجاد مخرج وسط لمسألة الاعتراض الأميركي على صواريخ «إس 400»، من خلال تشكيل لجنة من الطرفين لدرس الموضوع، وحتى الآن لم يعلَن شيء عن تشكيل اللجنة أو عن أيّ تطورات تتعلق بها. لكن مجلسَي النواب والشيوخ اتفقا، خلال مناقشات ميزانية وزارة الدفاع، على نص يعدّ ملزماً لترامب، وهو أنه إذا لم تتخلَّ تركيا عن صواريخ «أس 400»، فيجب أولاً إخراجها من برنامج إنتاج طائرات «أف 35» بشكل نهائي، الأمر الذي وصفه الأمين العام لـ«حلف شمالي الأطلسي» يانس ستولتينبرغ بأنه يضعف المنظومة الدفاعية للحلف، وأيضاً منع بيعها مستقبلاً منظومة صواريخ «باتريوت». كذلك، طالب مجلسا النواب والشيوخ، ترامب، بتطبيق قانون «CAATSA» بفرض عقوبات على كلّ الدول التي تشتري سلاحاً من روسيا.
إذا كانت التطورات في الجانب الأميركي تسير باندفاع كبير نحو مناصبة تركيا العداء الأقصى، فإن أنقرة في المقابل لم تتأخر عن إظهار أوراق قوتها في مواجهة التهديدات والضغوط الأميركية، حيث تعتقد بأن الوقت الآن ليس للحلول بل لاستعراض القوة. من ذلك، إبرام تركيا اتفاقاً مع حكومة فائز السراج في ليبيا، يلحظ تعاوناً عسكرياً بين البلدين، بل إن إردوغان أعلن أنه مستعد لإرسال جنود إلى هناك إذا تطلّب الأمر، وهو ما يمكن أن يظهر بلاده كلاعب مركزي في منطقة للولايات المتحدة دور مركزي فيها. كذلك، فإن اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا يلحظ إقامة منطقة حاجزة متصلة تركية ــــ ليبية من سواحل تركيا إلى سواحل ليبيا، ما يعرّض مصالح حلفاء أميركا من إسرائيل واليونان وقبرص الجنوبية ومصر لضغوط جديدة، ولا سيما بعدما أعلنت أنقرة أن أحداً لا يمكنه أن يمرّر في المنطقة الاقتصادية التركية الخالصة في البحر أيّ مشاريع مثل أنبوب النفط من إسرائيل ومصر إلى قبرص واليونان فإيطاليا، والمعروف باسم أنبوب «ميد يست». وبالتالي، فإن اتفاق الترسيم رسالة واضحة جداً بأن أيّ مشاريع في شرقي المتوسط لن يكتب لها النجاح من دون موافقة تركيا، وهو تهديد لكارتلات النفط الغربية في شرقي المتوسط، والتي تسعى إلى تصدير الغاز إلى أوروبا من دول منتدى غاز شرقي المتوسط.
لكن الرد التركي الأقوى كان يوم الأحد الماضي، عندما تحدث إردوغان في برنامج تلفزيوني عن أنه إذا مضت واشنطن في تطبيق العقوبات على تركيا، فإن بلاده قد تغلق قاعدتَي «إنجيرليك» و«كوريجيك» (حيث رادارات الدرع الصاروخية) أمام استخدامات الولايات المتحدة. وهما قاعدتان مهمتان جداً للأخيرة ولـ«حلف شمالي الأطلسي». وهذه ليست المرة الأولى التي تهدّد فيها تركيا بإغلاق «إنجيرليك» أمام الولايات المتحدة، فهي أقدمت على ذلك فعلاً عام 1975 في عهد رئيس الحكومة سليمان ديميريل، والذي كانت تتهمه المعارضة التركية حينها بأنه دمية أميركية، بعدما فرضت واشنطن حظراً للسلاح على تركيا بسبب غزوها قبرص عام 1974، وبسبب الخلاف على مسألة إعادة رئيس الحكومة عام 1974، بولنت أجاويد، السماح بزراعة الأفيون خلافاً لإرادة الولايات المتحدة. وقد استمرّ إغلاق «إنجيرليك» حينها ثلاث سنوات، بعدما تمّ التوصل إلى اتفاق جديد حول القاعدة.
من مجمل هذه التطورات، يقول سادات إرغين، في صحيفة «حرييت»، إن كلّ الجهود التي تبذلها تركيا وترامب من أجل إيجاد حلول للمشكلات الثنائية عبر البيت الأبيض تحديداً، لن تكون كافية لمواجهة الإجماع ضدّ تركيا من قِبَل مجلسَي النواب والشيوخ، فيما يرى الكاتب مراد يتكين أن التهديد التركي بإغلاق «إنجيرليك» و«كوريجيك» استشعار جدّي لكون العقوبات قادمة لا محالة. وعلى رغم التهديدات التركية، فقد بذلت أنقرة جهداً كبيراً في قمة «حلف شمالي الأطلسي» في الثالث والرابع من الشهر الجاري لرأب الصدوع مع الحلف، لكنها لم تنته إلى النجاح، حيث قال وزير الدفاع التركي خلوصي آقار: «لم نتوصل إلى اتفاق. لقد تُركنا وحدنا». يقول يتكين إنه لأسباب تاريخية وجغرافية، ليس بإمكان تركيا أن تدخل في تحالفات بنيوية مع روسيا وفق التوجه الأوراسي. حينها، لا يبقى أمام تركيا لمواجهة الضغوط الأميركية سوى تقوية علاقتها مع الاتحاد الأوروبي، سواء بمزيد من التعاون، أو بالضغط عبر ورقة اللاجئين السوريين، أو بتهديد مصالحها وشركات نفطها في شرقي المتوسط.