محمد خالدسئم الشباب الفلسطيني. فقد تكاثرت الأبواب المغلقة امامهم. وتكاثرت الدروب التي لا تفضي الى اي مكان الا إلى ما هو ادنى من حاجات البشر. قياداتهم مفككة، لا ثقة بها، والحياة تمر سنة خلف سنة، وعمر يذهب بالأحلام والآمال. سوريا مقفلة، وفلسطين مقفلة، وعملية التفاوض مقفلة. مخيمهم مقفل، واعمالهم مقفلة، فأين المفر؟ البحر من امامكم والموت من ورائكم، فكيف لا ينظرون الى المحرمات ويشتهونها؟
هكذا بدأت الفكرة دون تنظيم او تخطيط، شباب عاطلون من العمل يجلسون في المقاهي قرروا أن ينشئوا حدثاً على الفيس بوك، كان بمثابة «مزحة» على حد قول أحدهم، لربما تصل كلمتهم الى السفارات أو المعنيين بحقوق الانسان.
كُتبت الدعوة، وكان عنوانها «نعم للتهجير»، ونًشرت على صفحات التواصل الاجتماعي، باسم شباب مخيم نهر البارد المقهور، من يقرأها مثلي أنا، يضحك، لكنها في الحقيقة حركة مؤلمة تعبر عن حالة اليأس التي وصل اليها هؤلاء الشباب، كيف لا وقد أصبح حق التهجير، هدفا لهم بدلا من حق العودة المعطل؟

المكان مخيم نهر البارد، ساحة الشهداء. اي شهداء مخيم نهر البارد في حرب 2007 بين الجيش اللبناني وفتح الاسلام، الساعة الخامسة بعد الظهر الخميس 30-1-2014، الحضور بالمئات، شباب من مختلف الفئات، من العامل الى المتعلم الاعزب والمتزوج الصغير والكبير.. جاؤوا الى مكان الاعتصام الجماهيري كما سموه، الكل هنا يحمل لافتة كتب عليها مطالبه، مثل «نعم للتهجير» او «التهجير حق»، او مثلا «نريد الخروج من لبنان».
حصل هذا كله دون تنظيم. الكل تطوع. حتى منظم الحدث الافتراضي استغرب عدد الحضور ودرجة التجاوب. هنا علت الاصوات المطالبة بحقوق الشعب الفلسطيني، لم يكن حق العمل او التملك بينها، ولم يكن حق العودة مذكورا كأولوية، فـ «كيف نعود ان كنا جائعين» يقول محمد.
محمد الذي تخرج من الجامعة عام 2009، كان من المشاركين الاوائل في الاعتصام ومن الداعين إليه أيضا، كيف لا يكون موجودا وهو منذ أكثر من 5 سنوات لم يعمل بتخصصه «إدارة الاعمال»، بل «في الاشغال الشاقة» على حد قوله. اي «عتال، دهان، او ناطور» وبأجر قليل.
يقول محمد «انا مع الهجرة، وببساطة طول ما نحنا لاجئين 95 % مننا دون مبالغة ح يفكر كيف بدو يأمن لقمة العيش وخصوصي إذا كان عنده عيلة». يكمل محمد «هذا الشيء يقلق الجميع، نحن شعب لدينا قضية كيف سنعود ونحن همنا الاساسي الان البحث عن لقمة عيش، واللهاث وراء الجمعيات والمؤسسات الخيرية؟ كيف سنعود اذا كنت مرهونا لتنظيم من أجل كرتونة فيها بعض المعلبات؟» ثم يقول بحماسة «في حال نجحنا وخرجنا من البلد فستبقى فلسطين في قلوبنا كالعقيدة. هناك في بلاد الغرب نعمل ونعامل كبشر، نعمل من أجل الحياة ومن أجل فلسطين».
وينهي محمد بحرقة «ولمّا نكون لعبة عند التنظيمات عشان يشحدوا علينا، لما نكون متهمين بكل انفجار، وكل عملية اغتيال او تفجير عم يصير بالبلد، لما يمنعوك تشتغل لانك فلسطيني، لما تعيش وانت بس همك كيف بدك تتجوز وتعيش عيلتك؟ لما تكون مش مرغوب فيك، بعتقد نعم للهجرة، يعني اذا اللبناني نفسو عم يهرب من بلده».
هنا يدخل رامي، ورامي متزوج ولديه طفل هو ايضا خريج معهد معلوماتية، لكنه يعمل الان في محل لبيع المواد الغذائية، يقول رامي «نعم نحنا من المؤيدين والمطالبين والمناصرين للهجرة. الهجرة اولا لتأمين حياة كريمة لنا ولأطفالنا»، يكمل رامي «نحن جئنا متطوعين الى هنا، انا احضرت ورقة وكتبت عليها دون توجيه من أحد، لا نريد فصائل ولا شعارات، ولا نريد من أحد ان يستغل الشباب، لا نريد بعد الان فصائل تمثلنا، نحن هنا أكثر من 65 عاما، ولم تقدم إلينا الفصائل اي شيء»، هنا يظهر رامي غضبه على الفصائل الفلسطينية، وحين سألته عن جدية التحرك أجابني: «نحن درسنا الموضوع بكل جدية وبكل دقه وفي الايام المقبلة سيكون هناك تحركات أكبر في مناطق متعددة وامام مؤسسات محددة، سنذهب الى السفارات الاجنبية وسنقدم إليها رسائل وطلبات لجوء، سنعقد لقاءات صحافية وتلفزيونية لتصل كلمتنا».
الجميع في الاعتصام اتفق على رفع مطلب واحد: «الهجرة». هم غير منظمين، لكنهم متفقون، هم ليسوا كالفصائل كما تقول سمر التي جاءت الى الاعتصام لدعم التحرك، «فالفصائل الفلسطينية من مصلحتها ان تبقى المخيمات ونبقى كما نحن ليشحدوا علينا» تقول. وتضيف «انا مع الهجرة حتى لو كنت فتاة، الحياة هنا لا تطاق، نريد العيش بكرامة».
اذا، لا مكان للتراجع بعد نجاح الاعتصام الأول برأي الكثيرين، ولا أحد يمكن أن يوقف هؤلاء الغاضبين، ولا مجال للحوار معهم، ولا أحد يستطيع ان يعوضهم عن 65 عاما من الظلم.
تحركات واعتصامات ولقاءات هي الخطوة الثانية لهؤلاء، الهجرة مطلبهم الاول، بعدما كانوا ينادون بحق العودة. من المسؤول عن هذا الواقع؟ يسأل المعتصمون. أما الإجابات؟ فستكشفها الايام المقبلة بمتابعة حركة «الشباب المقهور»، كما يطلقون على أنفسهم.