يوم غد الجمعة، ستفتح المصارف أبوابها للجمهور بشكل اعتيادي وكأن شيئاً لم يكن، أو على الأقل هذا ما أوحى به بيان جمعية المصارف من خلال إشارتين: تمديد دوام العمل يومي الجمعة والسبت حتى الساعة الخامسة مساء، واتخاذ قرار فتح الأبواب للجمهور في اجتماع مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. هذا البيان أثار شبهة مشروعة حول دور سلامة والمصارف في إغلاق أبواب المصارف لـ12 يوم عمل على التوالي بحجّة أن عدداً من المصارف معرّضة للانهيار والإفلاس إذا فتحت أبوابها من دون توافر رؤية واضحة للمسار السياسي الذي تسلكه البلاد، رغم أنه من الثابت أن كل يوم تأخير فتح الأبواب كان يزيد احتمالات هروب الودائع.أمس، أعلنت جمعية المصارف أنها عقدت اجتماعاً مع سلامة قرّرت بعده الآتي:
- تعاود المصارف العمل الطبيعي ابتداء من يوم الجمعة في الأول من تشرين الثاني 2019. ونظراً لتراكم العمل بسبب الإقفال، تقرر تمديد دوام عمل المصارف يومي الجمعة والسبت في 1 و2 تشرين الثاني حتى الساعة الخامسة بعد الظهر.
- تذكّر الجمعية بأن المصارف ستستمر يوم الخميس 31 تشرين الأول الجاري في توفير مروحة خدماتها للزبائن عبر الصيرفة الإلكترونية، كما سيكون يوم غد الخميس مخصصاً للأعمال الداخلية بغية إنجاز الأعمال المتراكمة والتحضير لمباشرة استقبال الزبائن بدءاً من صباح الجمعة في 1/11/2019.
يأتي هذا القرار بعد سلسلة اجتماعات عقدتها الجمعية خلال الأيام الماضية من دون أن تتوصل إلى قرار يتعلق بمسألة فتح الأبواب للجمهور. فقد شهدت هذه الاجتماعات انقساماً بين من يطالب بفتح الأبواب سريعاً وإعلان الـ»كابيتال كونترول»، أي تقييد عمليات السحب والتحويل لمنع هروب الودائع وتخفيف حدّة الضغوط التي قد تؤدي إلى انهيار أو إفلاس بعض المصارف، وبين من كان يريد استمرار الإقفال حتى تتبلور رؤية واضحة لمسار الحلّ الذي يمكن أن تسلكه البلاد.
وبشكل مفاجئ، بلا «ابيتال كونترول»، وبلا رؤية واضحة لمسار الحل، قرّرت المصارف أن تفتح أبوابها للجمهور بعد يوم واحد على استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري. ثم صار المصرفيون الذين تواصلت معهم ”الأخبار“ منذ اليوم الأول لاندلاع الاحتجاجات الشعبية معبرين عن خشيتهم من انهيار وإفلاس القطاع، يردّدون عبارة واحدة عن فتح الأبواب: Business as usual (العمل كالمعتاد). هذه الجرعة المفرطة من الثقة بالنفس، ترافقت مع الإشارة إلى أن المصارف لديها السيولة الكافية لاستيعاب سحب الودائع أو هروبها الذي يقدّر بأن يتراوح بين ملياري دولار وثلاثة مليارات دولار في الأسبوع الأول بعد فتح الأبواب، وأن يرتفع إلى خمسة مليارات دولار خلال ثلاثين يوماً، مؤكّدين أنهم تبلغوا من سلامة تعويم القطاع بالدولارات اللازمة لتلبية طلبات الزبائن.
إذاً، اتخذ سلامة القرار بضخّ الدولارات في السوق رغم أنه كان يمتنع عن ذلك في الأشهر الماضية عبر تحديد كوتا لكل مصرف للتحويل إلى الدولار، ما سبّب نشوء سوق غير نظامية لسعر الصرف (لدى الصرافين) تسعّر الليرة وفق رؤيتها الفردية وحسّ المضاربة لديها، فانخفضت قيمة الليرة إلى 1700 ليرة مقابل الدولار الواحد، قبل أن يصل السعر أمس إلى 1900 ليرة لكل دولار… ترك هذا الأمر انطباعاً لدى الناس بأن الانهيار النقدي قادم.
في هذا السياق، قرّر سلامة إعلام اللبنانيين عبر قناة CNN بأن الانهيار على بعد أيام ليعلن بعدها الحريري استقالته. فما الذي دفع سلامة إلى إجراء تعديل في سياسة ضخّ الدولارات في السوق وتعويم المصارف بها؟
مصرف لبنان فرض فائدة 20% على إقراض المصارف بالدولار


ينكر المصرفيون أن يكون هناك أي اتفاق على وضع القيود على السحب والتحويل، إلا أن مصادر مطلعة، أشارت إلى أن سلامة كان واضحاً جداً في لقائه مع المصارف، بأنه لن يقوم بإعلان ”الكابيتال كونترول“ نظراً لأضراره الفادحة لأنه سيحوّل لبنان إلى سجن للدولارات، بل سيترك القيود لتنفّذها المصارف بشكل فردي، أي استنسابي. وبحسب المصادر، هو أعطى توجيهاته للمصرفيين، بضرورة تلبية طلبات الزبائن بشكل جزئي. أي أنه لا تجب الموافقة على إعطاء الزبون كامل قيمة وديعته المستحقة نقداً، ولا تجب الموافقة على تحويل كامل الوديعة إلى الخارج. وفي حال إصرار الزبائن، يجب التفاوض معهم على طريقة التحويل على مراحل، أو منحهم خيار إغلاق الحساب والحصول على قيمة الوديعة بشيك مصرفي، ولا يمنع إخضاع هذه العمليات لعمولات مرتفعة وما إلى ذلك من إجراءات تقيّد عمليات السحب والتحويل.
هذا السلوك يُطلق عليه في التقارير الصادرة عن المؤسسات المالية الأجنبية، اسم ”كابيتال كونترول ناعم» فيما هو في الحقيقة استنسابي، لأن بعض المصارف أجرت عمليات تحويل إلى زبائن معينين عندما كانت مغلقة، وهي ستمارس القيود الاستنسابية على صغار المودعين.
ولأن هذا النوع من الإجراءات غير المباشرة لتقييد السحب والتحويل قد لا يكون كافياً لتخفيف الضغط عن المصارف بسبب سيولتها الدولارية المنخفضة، وفي ظل ”ضغط سيكون أكبر بكثير مما حصل في 2005 وفي 2006“ وفق أحد المصرفيين. لذا، سيعمل مصرف لبنان على تعويم المصارف بالسيولة الدولارية وإقراضها الدولارات بفائدة 20%، ما يعني أن المصارف قد تحمّل هذه الكلفة للزبائن وتستعملها كورقة ضغط لثنيهم عن القيام بعمليات السحب والتحويل.
لكن هل يمكن لمصرف لبنان أن يضخّ خمسة مليارات دولار في شهر واحد، علماً بأنه يترتب عليه أن يدفع استحقاقات سندات يوروبوندز عن الدولة اللبنانية بقيمة 2.8 مليارات دولار في تشرين الثاني 2019؟ ففي حال قيامه بذلك سيستهلك مصرف لبنان الجزء الأكبر من احتياطاته القابلة للاستعمال التي حدّدتها ”موديز“ بأنها تتراوح بين 6 مليارات دولار و10 مليارات دولار. وفي محاولة يائسة لتعزيز سيولته بالدولار، اضطر مصرف لبنان في الأيام الماضية، أن يعمد إلى بيع جزء من محفظة سندات اليوروبوندز بسعر بخس أدّى إلى تدهور أسعار سندات اليوروبوندز ليصل ”العائد النهائي المتوقع عند الاستحقاق» على بعضها إلى ما بين 40% و70%، أي أن أسعارها انخفضت إلى ما دون الحدود المتعارف عليها للإفلاس.