كما في كلّ مرّة تمر فيها البلاد باستحقاق داخلي كبير، يقف الجيش اللبناني أمام امتحان صعب. فبين واجب حفظ أمن اللبنانيين وحمايتهم، ومحاذير الصدام مع أي فئة داخلية من الشعب، يسير الجيش فوق حقل ألغام، في لحظة مفصلية من عمر لبنان والمنطقة.وفي الظرف الحالي، تزداد الأمور تعقيداً، تحت ضغط الشارع والكباش السياسي القائم في الخلفية، فضلاً عن المحاذير الأميركية والغربية والتي تؤثّر إلى حدٍ ليس بقليل، في خيارات الجيش.
في التوصيف، منذ اليوم الأوّل لانطلاق الحركة الشعبية عشيّة جلسة الحكومة الشهيرة (16 أكتوبر 2019)، بدا الإرباك واضحاً على عمل الأجهزة الأمنية والعسكرية، مع غياب القرار السياسي. وحين اتسعت رقعة الاحتجاجات في البلاد في اليوم التالي وما بعده، بدا واضحاً حرص الأجهزة الأمنية والعسكرية، وتحديداً الجيش، على عدم الصدام مع المتظاهرين وترك موجة الغضب تمرّ من دون خسائر.

(هيثم الموسوي)

اليوم، وبعيداً عن الرؤية السياسية التي وضعها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في خطابه أول من أمس، بات واضحاً لدى الأجهزة الأمنية والعسكرية الأجندات السياسية الداخلية والخارجية، التي تستغل جزءاً يسيراً من الغضب الشعبي لتصفية الحسابات وتسجيل النقاط، مع وجود أعداد كبيرة من المواطنين الغاضبين، من غير الحزبيين، اندفعوا إلى الشارع بعد بؤس متراكم.
إلّا أن التظاهر شيء، وتعطيل الحياة شيء آخر. فالبلاد مشلولة اليوم، ليس بفعل التظاهرات و«الخضّة» السياسية فحسب، بل بفعل قطع أبرز الطرقات الرئيسية، ولا سيّما الطريق الساحلي من بيروت إلى الشمال، وفي بيروت، عند نقطتين مهمّتين، هما مستديرة الشيفروليه، وجسر الرينغ، بالإضافة إلى التهديد المستمر بقطع طريق الجنوب، من خلدة إلى السعديات إلى الناعمة إلى مدخل إقليم الخروب.
ماذا تفعل القوى العسكرية والأمنية؟ في اجتماع أمس بين قادة الأجهزة وقائد الجيش العماد جوزيف عون، جرى الاتفاق على العمل على فتح الطرقات، بالتدريج، «من الأسهل إلى الأصعب»، واشتراك الأجهزة الأمنية كافة في هذا العمل. ومع أن هذا الأمر مسؤولية قوى الأمن الداخلي المكلفة قانوناً بالأمن الداخلي، إلا أن الجيش مكلّف أصلاً بدعمها بقرار صادر عن مجلس الوزراء في عام 1990.
وعلى هذا الأساس، انطلقت أمس دوريات الجيش والأمن العام وقوى الأمن الداخلي وأمن الدولة في أكثر من اتجاه، لفتح الطرقات، مع قرار واضح بعدم استعمال القوّة. وهذا القرار ينبع من عدّة محاذير: أوّلاً، لا يرغب نصر الله والرئيس ميشال عون في استعمال القوّة القاتلة لفتح الطرقات لاقتناعهما بأن رئيس القوات سمير جعجع «يركب» موجة الغضب الشعبي، لكنّه ليس وحيداً في جل الديب والزوق، بل مع مواطنين لا صلة لهم به، وهو يبحث عن هذا الصدام الأهلي مع الجيش، منتظراً وقوع الدم. ثانياً، تدخّل السفراء الغربيون والسفيرة الأميركية إليزابيث ريتشارد، وأوصلوا رسائل إلى الرؤساء وقيادة الجيش بأن قيام الدولة بـ«قمع المتظاهرين السلميين» ستردّ عليه الولايات المتحدة بعقوبات مؤذية للمسؤولين، حتى لو كان أولئك يقطعون أوصال البلاد من بيروت إلى الشمال والجنوب.
ثالثاً، توحي أجواء المؤسسة العسكرية بأن الجيش يعتمد سياسية النفَس الطويل بهدف كسب الوقت بانتظار حلّ سياسي قبل التحرك الميداني، على اعتبار أن القوات اللبنانية تنسحب من الشارع في حال الضغط عليها سياسياً، وتحديداً من الرئيس سعد الحريري والرئيس نبيه بري، وهو ما يعوّل عليه الجيش بدل الدخول في صدام تسعى إليه القوات، في ظلّ تلطّيها بمتظاهرين آخرين. فضلاً عن أن أي محاولة لفتح الطرقات بالقوّة، أدت إلى زيادة أعداد المتظاهرين، كما حصل قبل أيام في الزوق، كما لاحظ الجيش. وبحسب المعلومات، فإن النائب جورج عدوان وعد قائد الجيش جوزيف عون بـ«المساعدة» على فتح الطرقات في الزوق وجل الديب، وكأن القوات تقوم بدور «المصلح»، لا المحرّك الأساسي لواقع قطع طريق بيروت ــــ الشمال وشلّ جبل لبنان الشمالي.
عدوان وعد قائد الجيش بـ«المساعدة» على فتح الطرقات وكأن القوات تقوم بدور «المصلح»!


إلّا أن هذا الأمر بات ينعكس تململاً داخل مسؤولي التيار الوطني الحرّ وقاعدته من قائد الجيش، مع تمايز واضح لموقف رئيس الجمهورية، الذي يحاول الحفاظ على التوازن بين مصلحة التيار ومصلحة الجيش. لكن هذا «الزغل» بين جوزيف عون والوزير جبران باسيل ليس وليد ساعته، إنما امتداد لسلسلة من التباينات أساسها خشية باسيل من تحوّل عون مرشحاً جديّاً لرئاسة الجمهورية، وطموح قائد الجيش الذي بدأت تتبلور معالم هذا الطموح لديه، على قاعدة «يحقّ له». وأخذ هذا التنافس غير المعلن بين الطرفين أشكالاً عديدة، منذ بدأ الحديث عن التقشّف داخل الجيش وخفض جزء من مخصصات العسكريين والضباط، وصولاً إلى ما حصل أخيراً في قضيّة توقيف كنعان ناجي، وهجوم وزير الدفاع الياس بو صعب على قيادة الجيش ومديرية المخابرات من هذه الخلفية.
لكن بمعزلٍ عن الأسباب والتبريرات التي يقدمها الجيش، إلّا أن النتيجة تبقى واحدة، وهي استمرار قطع الطرقات على مئات آلاف اللبنانيين الذين يستعملون طريق الشمال ــــ بيروت، واستمرار جعجع بممارسة الابتزاز السياسي. وهذا الأمر بدأ يولّد أسباباً لصدام لبناني ــــ لبناني، وتحديداً مسيحي ــــ مسيحي، في حال استمراره، على غرار ذلك الذي كاد يندلع أمس في الشيفروليه عندما نزل أنصار التيار الوطني الحرّ لفتح الطريق. فحين تغيب المؤسسات، وتحديداً الجيش، يلجأ كلّ طرفٍ إلى تنفيذ ما يراه مناسباً بالقوّة، كما يلوّح التيار الوطني الحرّ بـ«النزول إلى الأرض»، محاكياً مطالب مئات الآلاف الذين يتضررون كل يوم من قطع الشريان الرئيسي من الشمال إلى بيروت. فهل ينتظر الجيش حصول صدامات بين القوى السياسية حتى يتحرك ويفتح الطرقات لضبط الأمن بدل «قمع المتظاهرين»؟ ربّما.