علمت «الاخبار» ان التحقيق الذي يجريه الجيش اللبناني في ما إذا كانت الحرائق التي اندلعنت مطلع هذا الأسبوع مفتعلة، ينطلق من الملاحظات الآتية:اولاً، يُستبعد ان تكون حال الطقس والعوامل الطبيعية التي تميّزت بهبوب رياح ناشفة وارتفاع في درجات الحرارة، بحد ذاتها، قد أدت الى اشتعال النيران في الاحراج. علماً انها ساهمت على الأرجح بامتداد النيران وانتشار الحرائق؛
ثانياً، شوهدت من الجو، بواسطة طائرات وطوافات عسكرية، نيران تنطلق من بقعة محددة وسط غابة أشجار حيث لا توجد نفايات او بقايا زجاجية او بلاستيكية يمكن ان تشعل ناراً من دون أي تدخل؛
ثالثاً، لاحظ بعض المحققين وجود خط لانتشار النيران التي تمددت في الاحراج والوديان وتساءلوا اذا كان ذلك يدلّ الى انها مفتعلة وموجّهة.
وفي السياق نفسه، طلب وزير العدل القاضي ألبرت سرحان من النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، أول من أمس، تحريك النيابات العامة لفتح تحقيقات في الملابسات والأسباب التي أدت الى اشتعال الحرائق. وأوعز المدعي العام الى النيابات العامة الاستئنافية الشروع في الإجراءات القانونية، مشددا على ضرورة محاسبة من تسببوا في القضاء على مساحات شاسعة من ثروة لبنان الطبيعية «في حال ثبوت الافتعال».
لكن أجهزة تحقيق الضابطة العدلية التي تعمل بإشراف النيابات العامة لا تبدو مجهزة بالخبرات البشرية والإمكانيات التقنية اللازمة لإثبات وقوع افتعال للحرائق. إذ لا يوجد قسم خاص وخبراء متخصصون في جرائم افتعال الحرائق في الشرطة القضائية أو في فرع المعلومات التابعين للمديرية العامة لقوى الامن الداخلي، ولا في الشرطة العسكرية وفرع الهندسة في الجيش، ولا في مديريتي الامن العام وأمن الدولة. ويستعين المحققون بخبرات فوج الإطفاء والدفاع المدني وذوي الخبرة. غير ان ذلك غير كاف، ولا يسمح غالباً بتحديد دقيق للوقائع الجنائية. فقد يتمكن ضابط إطفاء من ذوي الخبرة من الاشتباه في أن الحريق مفتعل من خلال ملاحظته عوامل غير طبيعية، وقد يتمكن ضباط التحقيق الجنائي من الاشتباه بافتعال النيران من خلال مراقبة تحركات لأشخاص وآليات سبقت امتدادها، غير ان التحقيق في افتعال النيران يستدعي دراسة تفصيلية معمّقة لمكان الجريمة تتخللها فحوصات مخبرية تسمح بتحديد مكان اشتعال النيران وكيفية تمددها وتحليل آثار المواد والاشياء المحترقة.
وقبل الحسم في ما إذا كانت الحرائق فعلاً مفتعلة، لا بد من اتباع منهجية علمية في التحقيق، تتألف من خمس مراحل أساسية:

مراقبة المكان والحرائق
يفترض ان يبدأ التحقيق بمراقبة الاماكن التي اندلعت فيها الحرائق مراقبة دقيقة. وتجمع المعلومات المفصلة والصور في تقرير اولي يتضمن وصفاً مفصّلاً لألوان اللهب والفوارق في الألوان في الأمكنة نفسها وفي أماكن مختلفة خلال أوقات مختلفة، وتحديد دقيق لحال الطقس قبل اندلاع الحرائق واثناءه ولسرعة تمدد النيران. ولا بد من وضع تسلسل زمني (بالساعات والدقائق اذا أمكن) لتطوّر الحرائق والأمكنة المختلفة التي انتقلت اليها النيران. ويتضمن التقرير قياس حجم النيران ووصفاً للون الدخان المنبعث منها واتجاه السحب الدخانية وسرعتها، وإحصاء اولياً للخسائر البشرية والمادية وتقييماً لحجم الخراب جراء النيران. ويضاف الى ذلك عرض للأساليب والمواد المستخدمة في اخماد الحريق حتى لا يتم لاحقاً الخلط بين هذه المواد وموجودات «مسرح الجريمة».
وفي ما يتعلق بالأمكنة التي بدأت النيران بالاندلاع فيها، يفترض تحديد ما اذا كانت قد شهدت أي حوادث او تحركات غير مألوفة، وجمع معلومات مفصلة عن ذلك من خلال تحديد الشهود واستجوابهم في مرحلة لاحقة مع تدوين ملاحظات أولية بهذا الشأن في مطلع التحقيق حول ما إذا حضرت الى هذه الأماكن أي آليات أو أشخاص بشكل غير عادي، وهل سمعت أصوات أو شوهد أشخاص يتصرفون بطريقة غريبة أو انبعثت روائح في المكان قبل اندلاع الحرائق؟

الامن والسيطرة
بعد وضع التقرير الاولي، على المحققين تحديد دائرة «مسرح الجريمة» ومنع الدخول اليها لأي كان لحماية البقايا والأدلة الجنائية التي يُحتمل ان تكون فيها. ويفترض اغلاق المكان امام جميع المواطنين وتأمين الإضاءة والحراسة حوله على مدار الساعة لمنع أي تلاعب او إخفاء آثار فيه. كما ينبغي في هذه المرحلة انشاء غرفة عمليات لإدارة التحقيقات (إذ ان التحقيقات واسعة النطاق وتشمل مساحات واسعة وتستدعي عدداً كبيراً من المحققين) وتعميم رقم هاتف (خط ساخن) يتسنى من خلاله لكل من لديه معلومات عن أسباب اندلاع الحرائق الإبلاغ عنها. ويقوم الضباط في غرفة العمليات بالتنسيق بين مختلف الاجهزة القائمة بالتحقيق وذلك بإشراف القضاء المختص.

استثمار «مسرح الجريمة»
خلال هذه المرحلة يجري المحققون مسحاً شاملاً لمسرح «الجريمة» ومحيطه بحثاً عن بقايا أو آثار يمكن ان يكون مفتعل الحريق تركها ظنا منه بأنها. ويجب تكليف عدد كبير من العسكريين لإجراء المسح نظراً لضخامة المساحة؛ وعلى كل عسكري عدم لمس الأشياء بل مناداة المحقق لتصوير العينة وتدوين مكانها ثم وضعها في مستوعب خاص. ويشمل المسح كذلك بقايا الأشجار والتربة وبقايا النيران على الصخور والاحجار.
لا يوجد قسم خاص وخبراء متخصصون في جرائم افتعال الحرائق لدى أجهزة التحقيق

ويركز المحققون البحث عن أي جسم غريب أو اي بقايا محترقة لأشياء بلاستيكية ولأعقاب سجائر مثلاً مهما كان حجمها صغيراً. وينبغي ايضاً أخذ عينات من التربة خصوصاً حيث يبدو لونها مختلفاً عن لون التربة في محيطها. وفي غرفة عمليات التحقيق تجمع الصور الجوية للمكان قبل الحريق واثناءه وبعده، ويتم تحديد بعض النقاط التي توجد فيها أشياء غريبة لا تفسير اولياً واضحاً لوجودها. وتقارن هذه الصور بالخريطة المفصلة والتسلسل الزمني بالساعات بشأن تطور الحريق وامتداده التي وضعت في المرحلة الاولى سعياً الى تحديد مصدر النيران ومكان الشرارة الاولى.

الفحوصات المخبرية
بعد اخذ عينات ترسل الى المختبر الجنائي العلمي لإجراء الفحوصات اللازمة وتحديد طبيعتها ومصدرها وتحولاتها. ويتركز البحث على تحديد المواد الشديدة والسريعة الاحتراق التي يمكن ان يستخدمها مفتعلو الحريق. وعلى الخبراء العاملين في المختبر الاخذ باحتمال وجود مكونات ذرية تتألف منها السوائل الشديدة الاحتراق مثل البنزين والكاز والمازوت وغيرها من المشتقات النفطية. ولا بد من الإشارة هنا الى ان المكونات الذرية هذه هي عبارة عن هيدروجين وكاربون ويمكن بالتالي تحديدها بعد اجراء فحوصات مجهرية. الفحوصات المخبرية قد تحدد كذلك وجود بقايا بلاستيكية أو مواد أخرى يمكن ان تعود الى آثار لأشخاص كانوا في المكان أو الى نفايات رميت فيه.

التحقيقات الجنائية
قد تشير نتائج الفحوصات المخبرية الى وجود بقايا ربما تركها اشخاص كانوا في المكان قبل اندلاع الحريق. يستدعي ذلك تحديد هوية هؤلاء ومعرفة سبب وجودهم في المكان. ويفترض ان يحدد المحققون حركة السيارات والآليات في محيط «مسرح الجريمة» قبل اندلاع الحرائق. ويمكن جمع معلومات بشأن ذلك من المقيمين في المنطقة ومن خلال كاميرات المراقبة المنتشرة على الطرقات. وفي مسار آخر ينبغي تحديد ملكية وماهية استخدام الأراضي التي تعرض لها الحريق. كما لا بد ان يشمل التحقيق مراقبة حركة الاتصالات في «مسرح الجريمة» والبقعة المحيطة به قبل اندلاع الحريق. كل ذلك يساهم في زيادة عدد الشهود الذين يفترض تحديد هوياتهم ومكان وجودهم قبل نشوب النيران واثنائها.
التحقيقات الجارية في مناطق عدة شهدت حرائق خلال مطلع هذا الأسبوع، بإشراف القضاء المختص، لا يُتوقّع أن تخرج بنتائج سريعة. إذ ان الامكانيات والخبرات اللازمة غير متوافرة في لبنان ومنهجية التحقيق المتبعة حالياً لا تتناسب مع المعايير المهنية والاحتراف المطلوب.