وضع مأزوم تعيشُه البلاد على المستوى المالي والاقتصادي والنقدي، يُقابله إصرار من الطبقة الحاكمة على التمسّك بالنموذج الاقتصادي المُعتمد منذ عقود، وتصميم على عدم إحداث أي تغيير في سلوكها. وبينَ التعثر الذي تعيشه الدولة في انتظار أموال سيدر، وعدم قدرتها على ترجمة الإملاءات والشروط (التعهدات الإصلاحية) التي التزمت بها، تقِف عاجزة عن القيام بإجراءات جدية للخروج من الخطر الداهم. وبدلاً من السعي الى تبديل هذا النموذج الذي أثبت فشله، وأثبتت التجربة أنه لا يولّد سوى الأزمات، فضّلت السلطة الترويج لخيارات طالما هربت اليها، كما حصل إبان مؤتمرات باريس 1 و2 و3، وهي الترويج للتقشّف وبيع أملاك الدولة، والتسوّل على أبواب الدول. هذا تحديداً ما يقوم به رئيس الحكومة سعد الحريري الذي يترأس وفداً يضمّ 6 وزراء، إلى جانب حاكم مصرف لبنان و50 شخصية مصرفية واقتصادية الى دولة الإمارات، أملاً في الحصول على بعض الأموال، سواء على شكل ودائع في المصرف المركزي أو الاكتتاب في سندات الخزينة. زيارة سيستكملها الحريري بأخرى الى ألمانيا، حيث تحدّثت تقارير عن أن المستشارة أنجيلا ميركل تعقد مؤتمراً استثمارياً مُخصّصاً للبنان، على أن يتوجّه بعدها الى الرياض لتوقيع اتفاقيات ثنائية بين البلدين، تليها زيارتان، واحدة لموسكو وثانية لباريس.عملياً، ليسَت هذه الجولة سوى «حفلة تسّول»، على حدّ وصف وزير بارز، وهي لا تنتج حلولاً، لكنها ربما تأتي بمسكنات شبيهة بتلك التي تستخدمها الحكومة في معالجة الخضّات اليومية، كما حصل مع مستوردي المشتقات النفطية وتهديد محطات الوقود بالإضراب. فالسلطة لا تزال أصلاً تعيش في حالة من شبه الإنكار لوجود أزمة، فتسعى إلى تحميل وسائل الإعلام مسؤولية تضخيم الصورة، علماً بأن كل تقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ووكالات التصنيف ووسائل الإعلام الأجنبية المختصة في الاقتصاد تؤكّد أن «الأحمر ضوّا»، وبعضها سبَق أن حذر من حدوث إنهيار مدوٍّ.
محاولة رئيس الحكومة استنهاض الدعم الخليجي والدولي تأتي على وقع التحركات الاحتجاجية التي تشهدها بيروت وباقي المناطق ضد السلطة وسياساتها المالية والاقتصادية. وهذه التحركات على رغم محدوديتها، الا أنها إشارة في وسط واقع بالغ الحراجة تمُر به المنطقة، لا سيما أنها تتوسع لتشهد أحياناً أعمال شغب. وقد نفذ المتظاهرون يومَ أمس تحركات انقسمت بين ساحة الشهداء وشارع المصارف، كما اعتصم عدد منهم أمام مصرف لبنان في الحمرا.
وفيما وصل الحريري، عصر أمس، إلى أبو ظبي، في بداية زيارة رسمية إلى دولة الامارات العربية المتحدة تستمر يومين، يلتقي خلالها ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، ويشارك في مؤتمر الاستثمار الاماراتي الذي يعقد برعاية وزارة الاقتصاد الاماراتية وغرفة التجارة الاماراتية في فندق سانت ريجيس، تراجعت حدة التهديد بتوقف محطات الوقود عن العمل بسبب نفاد مخزونها، بعدَ أن تلقى مستوردو المشتقات النفطية تعهداً من رئيس الحكومة بأن يتم تمويل قيمة مخزونهم بالدولار، على أن تجرى تعديلات على تعميم مصرف لبنان الرامي إلى إتاحة التمويل بالدولار لاستيراد المازوت والبنزين والغاز والدواء والقمح بما يتناسب مع آليات الاستيراد والتجارة الخارجية. هذا الأمر كان كافياً لمستوردي المشتقات النفطية الذين أبلغوا أصحاب المحطات أنهم سيبيعون المشتقات النفطية بالليرة اللبنانية، فأعلنوا وقف الإضراب. لكن جانباً آخر من المشكلة ليس واضحاً إذا شمله التعهد الذي قطعه الحريري، وهو الجانب المتعلق بمستوردي القمح الذين توافرت لديهم معلومات عن أن الرئيس الحريري سيجتمع اليوم (الإثنين) بأصحاب المطاحن للوقوف على مشكلتهم مع التعميم ومعالجة هذا الأمر، إلا أنهم لم يلتقوا أحداً بعد ولم يتشاور معهم أحد بعد، «ولا نزال ننتظر اللقاء»، يقول أحد أصحاب المطاحن.
جولة الحريري لا تُنتِج حلولاً بل تأتي بمسكّنات على طريقة «حل أزمة» المحروقات


وعلى إثر تعهد الحريري، صدر عن الشركات المستوردة للنفط بيان يشير إلى أن «المصارف سوف تصرف للمستوردين بالتنسيق مع مصرف لبنان، يومياً، إيداعات الليرات اللبنانية الى الدولار بسعر القطع الرسمي المحدد من قبل مصرف لبنان»، لافتة إلى أن هذا الأمر يشمل «المخزون الموجود لديها والبضاعة المحمّلة على البواخر قبل تاريخ صدور القرار الوسيط عن مصرف لبنان بتاريخ 30 ايلول 2019». ولذا هي ستعمد إلى «تسليم المشتقات النفطية للمحطات ابتداءً من صباح اليوم، على أن يبقى هذا الترتيب إلى حين نفاد كامل المخزون ما دامت المصارف تحوّل يومياً كل الليرات الناتجة عن المبيع إلى الدولار بالسعر المحدد من مصرف لبنان».
في سياق آخر، حذّر رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع من أن «هناك خطرين داهمين على لبنان في الوقت الحاضر، الأول أمني ــ عسكري ــ استراتيجي؛ فقرار السلم والحرب هو بيد حزب الله كلياً. أما الخطر الثاني فهو «مالي ــ اقتصادي جدّي للغاية»، لافتاً إلى أن «الدولة مديونة بأكثر من 94 مليار، والنموّ اللبناني يقارب الصفر في المئة في السنوات الأخيرة، كما أن مداخيل الدولة تتناقص بينما مصاريفها على ازدياد». وفي كلمة ألقاها أمام القواتيين المشاركين في المؤتمر الثالث والعشرين للقوات في أميركا الشمالية، كان لافتاً ما قاله جعجع عن أن «هناك مواجهة كبيرة في المنطقة بين أميركا وحلفائها من جهة وإيران وحلفائها من جهة أخرى، وقد تجلّت بالعقوبات الاقتصادية الأخيرة التي ليس من الظاهر أنها ستُعطي نتيجة، فهل أميركا وحلفاؤها مستعدون للذهاب أبعد من ذلك؟ كل الدلائل تشير عكس ذلك، ما يعني أن إيران ستخرج أقوى من هذه الأزمة».