القاهرة | في تاريخ مصر، لم تُعرف طريقة واحدة لخلع الطغاة. كلّ طاغية رحل بطريقة مختلفة. ربما تتشابه بعض الظروف، لكن يبقى المشترك الثابت هو أن جميع من جلسوا على عرش «المحروسة» ظنّوا أن بإمكانهم الاستمرار في الحكم مدى الحياة، على رغم معارضة الشارع التي يستهينون بها. مرّت السنوات الخمس لعبد الفتاح السيسي كأنها حربٌ على جميع الصعد. واليوم، لا يخفى على أحد أن السيسي، الذي كان رمزاً لمواجهة جماعة «الإخوان المسلمون»، هو نفسه الذي يُسبّ بأبشع الألفاظ في المواصلات العامة والشوارع. الرجل الذي نزلت النساء والرجال لتأييده ودفعه إلى مواجهة «الإخوان»، بات تحت وطأة غضبة غير مسبوقة، ليس حصراً بسبب تصريحات المقاول والفنان محمد علي عن البذخ في إنشاء القصور الرئاسية، بل جراء ارتفاع الأسعار وقلّة فرص العمل بأجور عادلة، وسط أوضاعٍ صارت تخنق حتى رجال الأعمال المتضايقين من احتكار النظام العمل في كل شيء.
وصل عدد المعتقلين إلى نحو ألفَي شخص حتى أمس (أ ف ب )

حالة الترهيب التي يستخدمها النظام من فوضى ستنتج من رحيل السيسي، هي المبرر الذي يسوقه لحملة الاعتقالات الواسعة، التي وصلت ــــ وفق مصادر ــــ إلى نحو ألفَي شخص حتى أمس، فيما تم بثّ مقاطع لأشخاص، منهم من لا يجيد العربية، يعترفون بتلقيهم أموالاً من أجل المشاركة في أعمال «تخريبية» في العاصمة. كلّها خطوات تعيد إلى الأذهان الأساليب التي كان يلجأ إليها نظام المخلوع محمد حسني مبارك إبّان «ثورة يناير». ولا يخفى على أبسط مراقب أن الهلع السائد لدى الأجهزة السيادية الآن هو السبب الرئيس في ارتباك المشهد، إلى حدّ أن مؤيدي السيسي حذروا المعارضين من أن الكاميرات الموجودة للمراقبة في الشوارع ستتمكن من التعرف إلى وجوههم، وأنه سيُلقى القبض عليهم قبل وصولهم إلى منازلهم. وفي الوقت نفسه، تواصل جهات عدة في الدولة الحشد للتظاهر تأييداً للرئيس، وهي وقفاتٌ وإن لم تحصل على ترخيص، فإنها ستكون بحماية الشرطة التي كُلّفت فضّ أي تظاهرة معارضة، وخاصة في ميدان التحرير.
استمر السيسي في نيويورك في الحديث عن «سدّ النهضة» ومخاطره


ما يزيد الغضب على النظام أنه صار يفبرك قضايا للمعارضين، حتى مِمّن لا يمكن أن يكونوا في صف «الإخوان»، من يساريين وعلمانيين وشيوعيين، لكنهم الآن صاروا متهمين بالانتماء إلى «جماعة إرهابية»، في خطوة تظهر التخبط الكبير، وهو ما أدى إلى إعلان المنظمات الحقوقية الكبيرة في البلاد، وعددها تقريباً ثمانٍ، أن «الحملة الباطشة للأجهزة الأمنية تمثل انتهاكاً صارخاً للحق في حرية التعبير والاحتجاج السلمي، وأداة ترهيب وقمع للعمل السياسي والحقوقي المستقل والعمل الإعلامي والدعم القانوني». وأكدت هذه المنظمات، ومن بينها «مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان» و«الشبكة العربية»، أن «موجات الاحتجاج التي انطلقت مساء الجمعة الماضي كانت إنذاراً أولَ بتزايد الغضب الشعبي إزاء ممارسات النظام الحالي الاستبدادية، وغلقه منافذ التعبير الحر واحتكاره المنابر الإعلامية، وتردي الأوضاع الاقتصادية وزيادة الفقر لمعدلات مقلقة، بينما يواجه رئيس الدولة وحكومته اتهامات خطيرة بإهدار المال العام لا يتم التحقيق فيها»، معتبرة أن تلك التظاهرات لم تأتِ كردّ فعل على إجراء معين اتخذته الحكومة، بل على «مجمل سياسات الرئيس منذ توليه الحكم، والفشل المستمر في تحقيق استقرار سياسي أو اقتصادي». ودعت خبراء الأمم المتحدة والمقررين المعنيين بحقوق الإنسان إلى زيارة مصر، للوقوف على حالة حقوق الإنسان فيها، وتقديم التوصيات إلى الهيئات المعنية في الأمم المتحدة لاتخاذ اللازم.
لكن القدر المتيقن منه، بالنسبة إلى اليوم، أن حالة الفوضى التي أعقبت «ثورة يناير»، أو حالة العنف في الشوارع التي تبعت أحداث «30 يونيو»، لن تتكرر، لأن معارضي السيسي ليس لديهم قدرة على مواجهة الشرطة، كما أن مشكلتهم ليست مع الأمن بل مع النظام وسياساته، ما يعني أنهم لن يبادروا إلى الهجوم. أما السيسي، الذي لا يزال في نيويورك، فسيختتم زيارته سريعاً عائداً إلى القاهرة، التي تحولت إلى ثكنة عسكرية في ساعات. وهو كان، حتى اليومين الماضيين، يجري لقاءات موسعة، ولا سيما مع مجموعة من الشخصيات المؤثرة في المجتمع الأميركي، لا يزال يتحدث فيها عن قضايا أخرى مثل أزمة «سدّ النهضة». إذ قال إن «أي دولة لا يمكن أن تتعرض لمخاطر مثل المخاطر المرتبطة بنقص المياه، إلا إذا كانت في حالة ضعف»، مستشهداً بالعراق الذي كان يصله نحو 100 مليار متر مكعب سنوياً من المياه، والآن لا يصله إلا نحو 30 ملياراً. وربط هذه الأزمة بأحداث 2011، قائلاً: «عندما ضعفت الدولة المصرية، كان هناك ثمن دفعه المصريون وستدفعه الأجيال المقبلة». حديثٌ هو نفسه الذي يركز عليه الإعلام المصري حالياً، في ضوء التصعيد غير المبرر تجاه إثيوبيا، على رغم تعثر المفاوضات منذ أكثر من عام، وهو تصعيد يشمل العمل على رفع منسوب الخوف في الشارع مما هو آتٍ في المستقبل.