انتقل النواب الأميركيون، في حربهم المفتوحة مع دونالد ترامب، إلى مستوى آخر، يمكن في مقبل الأيام أن يرتدّ عليهم، ولا سيما أن فتح تحقيق في اتهام قد يؤدي إلى عزل الرئيس الأميركي يعتبر آخر ورقة في أيدي هؤلاء. وعلى رغم ضعف الرهان الآنف، إلا أن توقيت إجراء كهذا يبدو سياسياً بامتياز. إذ يسعى، من جهة، إلى توجيه ضربة معنوية إلى خصمهم بينما يتّجه إلى دورة ثانية لإعادة انتخابه، في مقابل رفع حظوظ مرشّحهم المُحتمل، جون بايدن، من جهة أخرى.وجاء في متن قرار فتح التحقيق، الذي صوّت له 235 نائباً من أصل 435، أن موظفاً في الاستخبارات الأميركية تقدّم بشكوى رسمية إلى لجنتَي الاستخبارات والشؤون القضائية في مجلس النواب الأميركي، تفيد بأن ترامب قام، في 25 تموز/ يوليو الماضي، بـ«مقايضة» مع الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، على مساعدات أميركية مجمّدة بقيمة 400 مليون دولار، في مقابل فتح تحقيق في مخالفات مالية لرجل الأعمال هنتر بايدن، ابن جو بايدن، نائب الرئيس السابق، والمرشّح الأوفر حظاً لنَيل ترشيح الحزب الديموقراطي لرئاسيات 2020.
وعلى خلفية السجال الدائر، اندفع البيت الأبيض، يوم أمس، إلى الإفراج عن نصّ الاتصال بين الرئيسين الأميركي والأوكراني. ويتبيّن، بحسب مضمون المكالمة، أن ترامب طلب، فعلاً، مساعدة زيلينسكي للتحقيق في قضية فساد تدين بايدن وابنه، الذي كان عضواً في مجلس إدارة شركة «بوريزما» الأوكرانية للغاز الطبيعي منذ منتصف 2014، وحتى مطلع العام الجاري. لكن الرئيس لم يذكر مقابلاً مادياً، وفق نص البيت الأبيض. إذ قال لزيلينسكي: «هناك أقاويل كثيرة حول ابن بايدن، وأن بايدن أوقف دعوى قضائية (ضد شركة يعمل فيها ابنه) والكثير من الناس يرغبون في معرفة ذلك، كل ما يمكنك القيام به مع المدعي العام (ويليام بار) سيكون رائعاً». وبحسب ما أشيع في السابق، فإن بايدن مارس ضغوطاً على الرئيس الأوكراني السابق للتخلّص من النائب العام، فيكتور شوكين، لينهي ابتزازه للشركة التي يعمل فيها ابنه.
ودافع البيت الأبيض بأن النص الذي نُشر لا يُظهر أن الرئيس يسعى وراء التحقيق في سلوك هنتر بايدن في مقابل تقديم مساعدات لأوكرانيا، وبأن الاتهامات بأن ترامب «قايض» من أجل محاربة خصم سياسي لا أساس لها. إلا أن صحيفة «ذي واشنطن بوست» ترى أنه على الرغم من أن الاتصال لا يحمل أي «مساومة»، إلا أنه، في الوقت ذاته، لا ينفي حدوثها. وبحسب الوثيقة التي نشرها البيت الأبيض، فقد تحدّث ترامب، في بداية الاتصال، عن المعاملة المميّزة التي تحظى بها أوكرانيا من قِبَل الولايات المتحدة: «سأقول (إننا) نقوم بالكثير من أجل أوكرانيا... نحن ننفق الكثير من الجهد، والكثير من الوقت»، معتبراً أن كييف «تقوم بما يجب عليها في المقابل»، قبل أن ينتقل إلى صلب الموضوع: أي التحقيقات التي يريد من أوكرانيا إجراءها. من هذا المنطلق، تعتبر الصحيفة أن الحديث عن هذه التحقيقات مباشرة بعد تبادل الودّ يوحي بما هو أكثر من مجرّد كلام عابر. وتشير إلى أن موظف الاستخبارات، الذي تقدّم بالشكوى، زعم أن هناك نوعاً من «الوعود». وفي هذا السياق، تلفت إلى أن الرئيس الأميركي طالب بما يرتقي إلى مستوى «مساعدة خارجية» في حملة إعادة انتخابه عام 2020، وإلى أن ذلك تزامن مع منعه تقديم نحو 400 مليون دولار مساعداتٍ لأوكرانيا، بعد وقت قصير من الاتصال الهاتفي.
يرى محلّلون أن سيناريو بيل كلينتون سيتكرّر في حالة ترامب


من هنا، اندفع عدد متزايد من الديموقراطيين في اتجاه بدء إجراءات المساءلة تمهيداً لعزل الرئيس، معلّلين ذلك بالقول إن سلوكه - السعي للحصول على مساعدة بلد أجنبي من أجل تشويه سمعة خصم سياسي - يُعدُّ «خيانة للقسَم الرئاسي»، فضلاً عن أنه يهدّد الأمن القومي. ويشي ما حصل في اليومين الماضيين بأن شيئاً ما جوهرياً تغيّر بالنسبة إلى هؤلاء. فعلى مدى أشهر عديدة، تفادى عدد من الديموقراطيين في مجلس النواب، وعلى رأسهم رئيسته نانسي بيلوسي، طرح فكرة عزل ترامب. بيد أن التبنّي المفاجئ لهذا الإجراء من قِبَلهم - وخصوصاً بيلوسي - مردّه اعتقادهم بأن الاتهامات الجديدة ضدّ ترامب خطيرة بما يكفي لاغتنامها. تغيير بيلوسي موقفها بدا مثيراً للاهتمام؛ ذلك أن رئيسة مجلس النواب طالما مثّلت صوتاً معارضاً لإجراءات العزل منذ دخول ترامب إلى البيت الأبيض، على اعتبار أنها تدرك المخاطر السياسية الناجمة عن الفشل في استحصال الأغلبية التي يتطلّبها العزل في مجلس الشيوخ، وأيضاً عن احتمال أن يرتدّ الأمر على حزبها. أما اليوم، فإن هذه المخاطر تبدو ماثلة أمام الديموقراطيين، ما سيسمح لترامب والجمهوريين في الكونغرس بالقول إن خصومهم يقومون بعرقلة عمل الرئيس من أجل تحصيل انتصار حزبي، مع اقتراب موعد الانتخابات.
أيضاً، ثمة تساؤلات عمّا إذا كان الديموقراطيون موحّدين بالفعل في شأن مسألة كانت قد خلقت انقسامات حادّة في صفوفهم حتى الأسبوع الماضي. الأمر لا يقتصر على مجرّد القيام بتحقيق، بل يتخطّاه إلى ما إذا كان هؤلاء متّفقين على المدى الذي يجب أن تتوسّع إليه التحقيقات. حتى أن بعض المشرّعين المعتدلين بينهم أعربوا عن إحباط في المجالس الخاصة بسبب نقص الدلائل، وفق ما أشارت إليه صحيفة «نيويورك تايمز». كلّ ما يفكر فيه المعتدلون وغيرهم هو الثمن الذي دفعه الجمهوريون عام 1998، بسبب تحركهم لعزل الرئيس بيل كلينتون، الأمر الذي يرى محللون أنه سيتكرر في إطار التحرك الحالي ضد ترامب.
هذا على الجانب الديموقراطي. أما على الجانب الجمهوري، وخصوصاً داخل البيت الأبيض، فيُظهر ترامب في العلن أن تحقيقات العزل التي يقوم بها الديموقراطيون، مجرّد ضجيج. ولكن في المجالس الخاصة، يقول المساعدون في البيت الأبيض إن الزخم الذي يرافق احتمال الإقالة يشكّل تهديداً خطراً لما بقي من أجندة الرئيس التشريعية، ولقوته كمُفاوض مع قادة العالم، إضافة إلى تشتيت تركيزه على القضايا الدولية. فقد ذكر موقع «بولتيتيكو» أن قلة في البيت الأبيض، أو حتى في المحور الأوسع المحيط بترامب، دافعوا عن اتصال الرئيس بنظيره الأوكراني، على اعتبار أن هذه الحادثة تخرق مبدأ عدم جواز أن يسمح المسؤولون في الولايات المتحدة أو يشجعوا الحكومات الأجنبية على التدخل في الانتخابات الأميركية.