يصرّ رئيس محكمة المطبوعات القاضي روكز رزق، على الزج بمصطلح «السلطة الرابعة» في بناء حيثيات معظم قراراته ضد ما يُنشر عبر الصحافة ووسائل الإعلام، بما فيها شبكات التواصل الاجتماعي. يكرر في قراراته اجتهاداً «مدسوساً»، مفاده: إن «وسائل الإعلام (كلّها حتى تويتر وفايسبوك) تمثّل السلطة الرابعة» في النظام اللبناني، وإن «النظام اللبناني قائم على مبدأ فصل السلطات وتوازنها وتعاونها». وبالتالي هي سلطة كسائر السلطات، لا يحق لها أن تتجاوز اختصاصها (يحدده لنا بـ«تنوير الرأي العام وتوعيته») بما يمسّ اختصاصات تعود إلى السلطات الأخرى، وإلا فإنها تكون قد خالفت النظام وارتكبت جريمة يعاقب عليها القانون.
بمعنى أن القاضي رزق يريد أن نصدّق أنه يصدّق أن «الصحافة»، أو «الإعلام» عموماً، سلطة «دستورية»، تماماً كالسلطة المشترعة التي يمارسها مجلس النواب (المادة 16 من الدستور)، والسلطة الإجرائية المناطة بمجلس الوزراء (المادة 17)، والسلطة القضائية «التي تتولاها المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصاتها ضمن نظام ينص عليه القانون ويحفظ بموجبه للقضاة والمتقاضين الضمانات اللازمة».
لكن القاضي رزق هو قاضٍ، أي إنه يحكم في القانون ويجتهد في نصوصه، وبالتالي هو يعرف تماماً أن لا وجود «قانونياً» لسلطة رابعة على غرار السلطات الدستورية الثلاث المذكورة. لا يمكن أن نصدّق أن قاضياً في محكمة المطبوعات مقتنع فعلاً بأن مبدأ فصل السلطات ينطبق على «الصحافة». لا يُعقل أن يكون القاضي القاضي رزق جاهلاً لمعنى مصطلح «السلطة الرابعة» المجازي. من وضع هذا المصطلح عنى أن «الإعلام» يمتلك قوّة في التأثير على السلطات الدستورية الثلاث من خلال تأثيره على الرأي العام وتكوين مواقفه وتمكينه من المعلومات لمحاسبة حتى القاضي رزق نفسه كلما أخطأ، هذه القوّة تنبع من الشعب بوصفه «مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية» (الفقرة د من مقدمة الدستور). أراد مخترع هذا المصطلح أن يحذّر من أن الإعلام أداة رقابة على السلطات التي تسيّر الدولة ويخضع لها المجتمع. أمر ما على غرار مصطلح «اليد الخفية» في السوق الحرّة، وما أدراك ما «اليد الخفية».
ما هي القصّة إذاً؟ هل انقطعت السبل بالقاضي رزق لكي يستعير من «العامّة» (التعبير له) مصطلحاً هشّاً يغطّي به قرارات تعسفية ترمي إلى حماية مصالح معينة ومسايرة مواقع نفوذ وثروة على حساب صون حريّة الصحافة والتعبير؟
إن تدقيقاً بسيطاً في حيثيات قراراته، ومنها قضية رندة يقظان ضد محمد نزال وقضية مايكل رايت ضد شربل نحاس وقضية فؤاد السنيورة ضد رشا أبو زكي، يمكن أن يعطي تلميحاً إلى القصّة الحقيقية: يبدو أن القاضي روكز رزق يقبل بأداء مهمّة إعادة محكمة المطبوعات إلى وظيفتها المعهودة، أي الإسهام في قمع كل اعتراض يتوسل وسائل النشر والتعبير وادواتهما.
يصف القاضي رزق هذه الوسائل والادوات بـ«سلطة رابعة»، بهدف فرض نوع من الرقابة، لا يمتلك صلاحيتها إلا إذا تم الإقرار له بصحّة الوصف. فإذا تم الإقرار له بذلك، فستكون وسائل الإعلام محسوبة ضمن حظيرة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، أي إن وظيفتها يجب أن تخدم المصالح الكامنة في النموذج اللبناني ونظامه السياسي. فعندما يتم تكريس «الاجتهاد» الذي يعطي صفة «سلطة» للإعلام، عندها يكون الإعلام مطالباً بالانضباط إلى جانب السلطات الأخرى، أن يتوازن معها ويتعاون من أجل حماية تلك المصالح ومنع أي مسّ بها.
تطبيق مبدأ «فصل السلطات» على ما يُنشر عبر الصحافة والإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي يمكن أن يفعل فعله في فرض الانضباط المطلوب، ليس على العاملين والعاملات في الصحافة والإعلام فحسب، بل على كل شخص يستخدم وسيلة مفتوحة لتدوين موقف أو رأي. تخيّلوا مثلاً (وهذا يحصل)، أن القاضي رزق يريدنا في ظل الفساد الضارب بالسلطات الدستورية الثلاث أن نواصل الصمت. يسمح لنا بأن نتحدث عن سرقات من دون لصوص، وفساد من دون فاسدين، وقتل من قتلة، وإرهاب من دون إرهابيين، وتعدّيات من دون متعدّين... إلخ. حجّته في ذلك، أن هذه من اختصاص السلطة القضائية حصراً، أمّا الإعلام فوظيفته «التعمية» الى حين ان يطلق القضاء احكامه «المحسوبة»، عندما يكون «الإعلام» موظّفاً في التطبيل والتزمير... غريب لماذا لا يُنظر الى «التلميع» و«التجميل» و«تمسيح الجوخ» في الإعلام تماماً كما يُنظر الى «القدح» و«الذم» و«التشهير»؟ اليست الخطورة موجودة في الأمرين؟
هل شاهد القاضي رزق كيف سحل بلطجية الجمارك الفاسدين اعلاميين يحققون بفسادهم؟ هل سمع انين عمّال وعاملات شركة «سبينيس» الذين صدّقوا ان في لبنان سلطات دستورية تحميهم من ارهاب مديرهم التنفيذي مايكل رايت؟ هل فاته فعلاً ان القاضية رندة يقظان لم تُعاقب لو ان «الأخبار» لم تنشر فضيحتها على الملأ وتستنكر تورطها بحماية مروّجي المخدّرات بين طلاب المدارس والجامعات؟ الا يقرأ؟ الا يعرف ان الحسابات المالية للدولة غير صحيحة منذ عام 1979؟ وان زملاءه القضاة في ديوان المحاسبة يلاحقون (من دون طائل) مئات الملفات التي تشير الى اساءة استخدام المال العام من قبل فؤاد السنيورة والآخرين؟
ليسمح لنا رئيس محكمة المطبوعات: طفح «الكيل»؛ إذ لا يمكن قراءة احكامه الجائرة الا باعتباره يؤدي قسطه في آلية عمل «الاخطبوط». ليس الجميع سذّجاً ليصدقوا ان اجتهاده عن «السلطة الرابعة» ليس هدفه مناصرة فؤاد السنيورة ومايكل رايت ورندة يقظان... لا براءة في سلوك القاضي، ولا براءة في السكوت عن هذا الدور الذي تلعبه محكمة المطبوعات، الا اذا كانت الصحافة تعتبر نفسها جزءاً من منظومة هذا النظام، وهي كذلك في الغالب.