المحامي نزار صاغية منذ فترة، درجت محكمة المطبوعات في بيروت على إصدار أحكام بمواجهة صحافيين وناشطين بشكل تلقائي ومن دون أي اعتبار للخير والشر. يكفي أن تتثبت المحكمة من وجود كلمات نابية ضد شخص آخر لتحكم على القائل بجرم الذم، بمعزل عن حسن نيته، وبمعزل عما إذا كان الذم صائباً أو واجباً أو مطلوباً، ولتعدّ الثاني ضحية فتحكم له بتعويض مهما كان منتهكاً للمصالح العامة والخاصة. وقد ثبت ذلك في حكمين صادرين أخيراً، الأول في قضية فؤاد السنيورة ضد رشا أبو زكي والأخبار الصادرة في 20/1/2014، وقضية مايكل رايت ضد شربل نحاس الصادرة في 3/2/2014، وبذلك بدت المحكمة كأنها باتت محكمة لتعليم الأدب، لا محكمة حريات.

ولا نبالغ إذا قلنا إن الحكم الصادر عن محكمة مطبوعات بيروت في 24/2/2014 في قضية رندة يقظان ضد محمد نزال شكّل من هذه الزاوية كاريكاتوراً مضخماً عما يمكن أن يصل إليه هذا المنطق. وفي تفاصيل هذه القضية، أن نزال فضح تدخل أحد النافذين في القضاء للإفراج عن مقرب منه مشتبه فيه بجرم المخدرات، فبادرت وزارة العدل فوراً الى إحالة المدعية مع قاض آخر الى المجلس التأديبي، مفاخرة بذلك أمام الرأي العام، وصدر حكم تأديبي بحقها بداية واستئنافاً انتهى الى إنزال تدرّجها درجتين.
فعلى صعيد القانون، تجاهلت المحكمة المادة 387 من قانون العقوبات التي تجيز للمدعى عليه التبرؤ من فعلته في حال ثبوت صحة الأفعال موضوع الذم في قضايا تتصل بالخدمة العامة. ورغم إشارة المحكمة الى صدور قرارات تأديبية بحق المدعية، فهي سارعت الى استصغار أثر هذه الأحكام بقولها إنها أدت الى إنزال تدرجها درجتين «ليس إلا». كما لم تكلف نفسها عناء ما تضمنته هذه الأحكام «السرية» أو استدعاء المدعية لاستجوابها بشأنهما، إنما اكتفت في موقف ليس هنالك ما يبرره بالقول إن الأفعال المساقة في المقال ضد المدعية هي من دون إثبات جدي، وهي من باب الأخبار الكاذبة. هكذا، بكل بساطة، وكأنما المحكمة تعلن أن كل ما فاخرت به وزارة العدل في مجال المحاسبة وعملت على أساسه مع المجالس التأديبية كان كذباً.
سبق أن عبّرتُ عن خشية من أن تكون إجراءات المحاسبة التي بادر إليها قرطباوي داخل القضاء من دون غد (المفكرة القانونية، تموز 2013، العدد 10) وأن تتوقف فور خروجه من الوزارة، لكن ما لم أتوقعه قط هو أن تبادر محكمة بعد خروجه بأيام من الوزارة الى إعلان أن كل أعمال المحاسبة بنيت على كذب. وانطلاقاً من ذلك، يصبح المحال ممكناً، فيحكم على صحافي كان يقتضي الثناء على عمله تبعاً لفضحه مفسدة تدخلات في القضاء، ويحكم بتعويض خمسة عشر مليون ليرة لبنانية (وهو تعويض باهظ بالمقارنة مع أحكام المطبوعات) لقاضية ثبت أنها مخطئة، الى درجة صدور أحكام تأديبية بحقها.
وما يزيد القرار قابلية للانتقاد، هو استعادة المحكمة حيثيتها القائلة بأنه لا يجوز للصحافة (السلطة الرابعة) أن تبلغ تحت ستار «حرية إبداء الرأي قولاً وكتابة» حد إصدار «الأحكام» بحق أشخاص محددين بالاسم، عملاً بمبدأ فصل السلطات. واللافت أن المحكمة لامت هنا الصحافي لتجاوزه الهيئة القضائية العليا للتأديب، فيما أن هذه الأخيرة بدت كأنها تكاملت معه في عملها، طالما أنها أدانت يقظان على الخطأ المرتكب منها. والواقع أن هذا الاجتهاد غير دستوري طالما أنه يؤدي الى اختلاق قيود غير موجودة لحرية التعبير كما كرسها الدستور والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وهو من هذه الناحية اجتهاد قامع للحرية بحد ذاته.
انطلاقاً من كل ذلك، لا نبالغ إذا قلنا إن محكمة المطبوعات فقدت دورها كمحكمة متخصصة: فبدل أن تكون محكمة لصون الحريات، استحالت مجرد محكمة لتعليم شكليات الأدب، محكمة قد تصل وفق منطقها التهذيبي الى إسكات أصوات حق و«جبر ضرر» ألف ظالم وظالم.