نشرت «الأخبار» في 30 أيار 2013، تحقيقاً للزميل محمد نزّال تحت عنوان «قضاة وضباط يحمون شبكة مخدرات: ابن النافذ يفلت من العقاب»، استحقّ عليه أمس حكماً من محكمة المطبوعات يقضي بتغريمه ستة ملايين ليرة، وتغريم «الأخبار» مبلغاً مماثلاً. كما أنه ارتكب «تحقيراً وقدحاً وذماً» بحق القاضية رندى يقظان، المتورّطة في قضية إخلاء سبيل اثنين من المتورطين في شبكة ترويج المخدرات، فاستحقّ أيضاً حكماً من محكمة المطبوعات يقضي بتغريمه أيضاً ستة ملايين ليرة، وتغريم «الأخبار» مبلغاً مماثلاً.

والأهمّ، أن القاضية يقظان التي عاقبتها الهيئة القضائية العليا للتأديب بإنزال رتبتها درجتين، على خلفية «الخبر الكاذب» نفسه، استحقت تعويضاً لها عن «الضرر المعنوي الكبير» الذي تسبّب به محمد نزّال، وحكم لها بمبلغ 15 مليون ليرة لبنانية.
أي أن المبلغ الإجمالي الذي ستدفعه «الأخبار» ونزّال يصل إلى 40 مليون ليرة لبنانية... لأنهما كشفا قضية فساد.
هذه هي خلاصة الحكم الذي صدر أمس عن محكمة المطبوعات، في الدعوى المرفوعة ضدّ محمد نزال و«الأخبار» من قبل القاضية رندى يقظان، والتي كانت قد طلبت عبر محاميها تعويضاً شخصياً قيمته مليون دولار أميركي، كما طلبت ملاحقة نزّال بجرم نشر «تحقيقات» لا يحق له نشرها (وحكمت المحكمة ببراءته منه). طيّب. كيف يمكن الكتابة عن هذا الحكم؟ ومن الذي يضمن لكاتب هذه السطور أن لا يلاحق غداً بجرائم القدح والذمّ والتحقير، لأنه بكلّ بساطة غير قادر على استيعاب هذا الحكم؟
هل للقيّمين على محكمة المطبوعات أن يشرحوا لنا كيف يمكننا أن نصف حكماً، يتهم الصحافي محمد نزّال بنشر خبر كاذب، وهو لا يدلّنا في أي جملة من الحكم الصادر في 12 صفحة على المعلومة الكاذبة التي وردت في التحقيق موضوع الدعوى؟ هل من يشرح لنا، نحن معشر الصحافيين، كيف نصف قاضياً ثبت تورّطه في قضية فساد وعوقب على ذلك، من دون أن يكون في وصفنا لما قام به قدح وذمّ وتحقير؟
التعليق الأوّل الذي سمعناه على لسان نزّال كان ضحكة ساخرة «ألم أقل لكم إني لا أؤمن بهذا القضاء؟». لكن كلامه هذا غير دقيق، وهو الذي كان متأكداً من أنه سيربح هذه الدعوى، «بل كنت أعتقد بأني سأحصل على تنويه لكثرة ما كان بعض القضاة يشيدون بأدائي، ولأني نجحت في هذه القضية في تحريك مياه راكدة لا تزال آثارها في قصر العدل إلى اليوم... وهذا ما جعلني أستعيد بعض الأمل بوجود دولة». كان نزّال ينتظر مفاجأة إيجابية أمس، تجعله ربما يندم على ما كتبه مرة على صفحته «الفايسبوكية» بحق بعض القضاة. لا يخفي شعوره بالإحباط «الذي لا يعني اليأس». قد يكتفي بالقول مجدداً: أيها اللبنانيون، هذا هو قضاؤكم... ولكم الحكم.
لكن، ماذا في تفاصيل الحكم؟
تدين محكمة المطبوعات محمد نزّال بالخبر الكاذب، لأن «تحليلات واستنتاجات المدّعى عليه، بالنسبة للأمور التي أشار إليها في متن مقاله، ولا سيما تأثير أصحاب النفوذ على القرارات القضائية والقضاة الذين يحمون شبكة مخدرات ومنظومة الفساد بين الأمن والقضاء وتدخّل السفارة الأميركية والتي ذهب فيها بعيداً من دون أي إثبات جدي، تعتبر في السياق الذي جاءت فيه، من باب نشر أخبار بخلاف ما هي عليه، وذلك بهدف الإساءة إلى المدعية ومن خلالها إلى السلطة القضائية، جنحة الأخبار الكاذبة المنصوص والمعاقب عليها في المادتين 2 و3 من المرسوم الاشتراعي رقم 104/77، معطوفة على المادة 26 من المرسوم عينه».
أين الخبر الكاذب في الموضوع؟
هل هو الحديث عن تأثير أصحاب النفوذ على القرارات القضائية؟ هل هذا خبر كاذب؟ ألم يرد هذا الحديث عن النفوذ وتدخل السياسيين في الملفات الحساسة على لسان وزير العدل السابق شكيب قرطباوي؟ ألم يطلق وزير العدل الأسبق ابراهيم نجار حملة «تنقية القضاء»؟ وهما وزيران معاصران لهذه الحقبة التي نعيشها؟ وكيف ذهب نزّال بعيداً في موضوع تدخّل السفارة الأميركية في القضية، والإشارة إلى الأمر وردت في عبارتين فقط هما: «إلى حدّ ورود اتصالات من السفارة الأميركية في بيروت!»، و«السفارة طالبت بهما»، وهاتان العبارتان نقلتا، بالمناسبة، عن مصدر قضائي كما جاء بوضوح في المقال موضوع الدعوى.
والأهم، كيف لا يكون هناك تأثير لأصحاب النفوذ، والقاضية التي رفعت الدعوى على نزّال و«الأخبار»، عوقبت بموجب «رحلة تحقيقات قضائية» بدأت عند هيئة التفتيش القضائي، ثم قرار المجلس التأديبي، وأخيراً الهيئة العليا للتأديب.
أما الأسباب التي دفعت إلى إدانة نزّال بجرم «التحقير والقدح والذمّ» (المادة 22 من المرسوم الاشتراعي 104/77) فهي قول نزّال في التحقيق: «بأن قضاة يحمون شبكة مخدرات، وبوجود منظومة «فساد» بين الأمن والقضاء ونفوذ أصحاب الثروات، وبأن المدعية نظرت بقرار إخلاء سبيل ابن أحد النافذين صاحب المعارف والأموال الطائلة والشركات، وذلك بناءً على طلب السفارة الأميركية في بيروت، من دون أن تستأنف هذا القرار، وبأنها استغلت لهذه الغاية عدم وجود أحد القضاة، في عمله ذلك اليوم، وأخذت الملف، العائد لهذا الشخص، لسبب غير مفهوم في «قضية تحمل مخالفات سافرة للقانون». بالإضافة إلى قوله «بوجود صورة نمطية لصاحب النفوذ، الذي يحني بماله رؤوس... أشخاص القضاء، والقادر، على «حفظ» أي قضية يريدها أو تعجيلها، وعلى «تحديد ما سيكون الحكم فيها قبل سنوات من النطق بحكمها». كل ذلك على النحو المبين في باب الوقائع، يعكس في السياق الذي جاء فيه، مقاربة خاصة لكاتب المقال، المدّعى عليه محمد كريم نزال، في عرضه لقضية المدعية، تخطّت دوره كصحافي، مولج بـ«تنوير الرأي العام وتوعيته»، لتبلغ حد تجاوز هيئة من هيئات السلطة القضائية، ألا وهي الهيئة القضائية العليا للتأديب، التي أصدرت بالفعل قراراً محدداً بموضوع الوقائع المنسوبة للمدعية وذلك من خلال تحليلاته الشخصية واستنتاجاته المفرطة التي انطلقت من «الخاص» لإصدار قرار مسبق مواز لقرار «الهيئة القضائية العليا للتأديب»، تضمّن، من ضمن ما تضمّن، تعابير وإيحاءات مسّت بشخص المدّعية بشكل أساء إليها ونال من شرفها ومن كرامتها ونسف في متنه مبدأ فصل السلطات للوصول بها إلى العام وللحكم على تصرفات مشبوهة لكلّ من مجلس القضاء الأعلى ورئيس هيئة التفتيش القضائي والنائب العام التمييزي، القاضي سعيد ميرزا».
كلّ هذه العبارات تعدّ قدحاً وذماً وتحقيراً بالقاضية، وهي ألحقت بها ضرراً معنوياً، «لا يمكن أي بدل مادي تعويضه».
لكن، إذا كان توصيف هذه العبارات تحقيراً وقدحاً وذماً... كيف يمكن توصيف ما أقدمت عليه القاضية؟ ولماذا عاقبتها «الهيئة القضائية العليا للتأديب» بـ«إنزال درجتين... ليس إلا».
نعم، «ليس إلا». هكذا تعلّق المحكمة على قرار «الهيئة العليا للتأديب»، بعد أن تعرض لنا العقوبات الأخرى التي كان يمكن القاضية أن تتعرّض لها مثل «التنبيه، اللوم، تأخير الترقية لمدة لا تتجاوز السنتين، إنزال الدرجة، التوقيف عن العمل بدون راتب لمدة لا تتجاوز السنة، الصرف من الخدمة، العزل مع الحرمان من تعويض الصرف ومعاش التقاعد».
مجدداً، كيف يمكن التعليق على عبارة «ليس إلا» الواردة في هذا الحكم القضائي، من دون أن يخشى كاتب هذه السطور من الملاحقة بتهمة «ازدراء» القضاء؟ أو أي تهمة أخرى؟ ربما يمكن تفادي ذلك بشرح ما يعنيه خفض الدرجتين. إنه يعني، بكل بساطة، «تبخّر» 4 سنوات من الخدمة في السلك القضائي... «ليس إلا».
يتعامل الحكم الصادر بحق محمد نزال وكأن قراراً تأديبياً لم يحصل، وكأن قاضياً آخر لم يعلّق خدماته، وكأن الخبر الكاذب ليس كاذباً. لكن ما هو أخطر من ذلك، السيف الذي بات يشعر به الصحافي مصلتاً فوق رقبته، في كلّ مرة يحاول فيها أن يشير إلى مكمن الخلل، وخصوصاً إذا تعلّق الأمر بالقضاء.

■ للاطلاع على نصّ الحكم كاملاً أنقر هنا




القاضي جعفر قبيسي: ليس خبراً كاذباً

لم تكن القاضية رندى يقظان المتورّطة الوحيدة في قضية شبكة ترويج المخدرات، إذ أدانت «الهيئة العليا للتأديب» القاضي جعفر قبيسي أيضاً، ما دفعه إلى تعليق خدمته من السلك القضائي. «الأخبار» سألته أمس عن رأيه في الحكم الصادر بحق الزميل محمد نزّال، فقال إنه قرأ تصريح الأخير في موقع «النشرة» فور صدور الحكم «وأنا مثله، قرفت من كلّ شيء».
قبيسي لم يطّلع بعد على مضمون الحكم، ولديه بعض الملاحظات على العمل الإعلامي «الذي يزيدها بعض الشيء، ولا يتحلى بالموضوعية»، لكن هذا لا يعني أن ما ورد في تحقيق نزّال كاذب «لا، ما ورد في التحقيق ليس كذباً» يقول من دون تردّد.
نسأله: هل تشعر بالشماتة بمحمد نزّال؟
يجيب: «أعوذ بالله».
«هل يمكن أن ترفع دعوى ضدّه، بناءً على الحكم الصادر أمس؟»
أكيد لن أرفع دعوى.
ماذا تقول لمحمد نزّال؟
أقول، ليس لمحمد، بل للجميع: هذا هو لبنان، أحياناً يفتشون عن القشة، ويكون العود في عيونهم ولا يرونه.