يعود تورط مقاتلين من دول مجاورة لليبيا في الحرب إلى إرث نظام معمر القذافي، لكن ذلك لا ينفي تورط أقطاب الحرب في استخدام حاجة هؤلاء إلى الموارد المادية والغطاء السياسي، في حين تستثمر قوى إقليمية في الانقسام الليبي، لتنفيذ مشاريع سياسية وإثبات الهيمنة في المنطقة، والاستفادة مستقبلاً من فرص تربح اقتصادي. إلا أن الجميع يحاولون إبقاء الدعم الخارجي داخل «حدود آمنة» بحيث يصعب كشفه أو إثباته، أو يسهل تبريره بحجج من قبيل حماية الأمن القومي. مع ذلك، تنضح التقارير السنوية للجنة مراقبة حظر التسليح، التابعة لمجلس الأمن الدولي، بإثباتات وقرائن حول الخروقات المتعددة، بما يضع الكرة في ملعب الأمم المتحدة ومجلس الأمن، العاجزين عن تطبيق قرار الحظر أو إدانة من يخرقه، في حين تجد التنظيمات المتطرفة، من خلال تدفق المقاتلين والأسلحة وإطلاق المعارك، مساحات للحركة، وتعبئة موارد تُستخدم ضد جميع الليبيين وفي التخطيط لهجمات خارجية.
قوات «حميدتي»
تتهم حكومة «الوفاق الوطني»، الإمارات، بإرسال ميليشيات سودانية من «الجنجويد» سيئة السمعة، إلى المشير خليفة حفتر، بتنسيق مع قائد قوات «الدعم السريع» المكونة منها، وهو نائب رئيس المجلس العسكري، محمد حمدان دقلو، الملقب بـ«حميدتي»، الرجل الأكثر قرباً إلى أبو ظبي، ويقود القوة الأكبر من القوات البرية السودانية المشاركة في الحرب على اليمن. وبعيداً عن الاتهامات، تجدر الإشارة إلى أن قوات «الوفاق» قبضت بالفعل على مقاتلين سودانيين أثناء استرجاعها مدينة غريان الاستراتيجية، من دون أن تكشف عن انتماءاتهم بشكل دقيق، لكن وزير الداخلية فتحي باشاغا، أعلن في مقابلة مع قناة «ليبيا» قبل أيام، أن «الإمارات زودت حفتر بمرتزقة من الجنجويد والمعارضة التشادية» كانت قد سحبتهم من اليمن، مشيراً إلى أنهم «موجودون حالياً في قاعدة الجفرة، وفي الحقول النفطية»، وهناك حديث عن أن مجموعة منهم وصلت إلى قاعدة في مدينة ترهونة (جنوبي شرقي طرابلس).
معظم التشكيلات العسكرية السودانية الموجودة في ليبيا تنتمي إلى إقليم دارفور. ويعود وجودها إلى فترة حكم نظام معمر القذافي، الذي دعم حركات التمرد وأدى دوراً في إثارة الصراع في الإقليم، وفي مجمل المفاوضات التي دارت حوله سابقاً، وقد جاء كل ذلك بعد تبني التوجه الأفريقي خلال التسعينيات. وعلى إثر إطاحة القذافي، التي ساهم فيها نظام الرئيس المخلوع عمر البشير بفتح منافذ تسليح من الجنوب، فقدت الحركات الدارفورية مصدراً مهماً للدعم المالي والعسكري والسياسي، سعت إلى تعويضه بالاستفادة من الصراعات الليبية المحلية. ففي الأعوام السابقة، عملت في التهريب عبر المسالك الصحراوية، وشاركت في حملات مسلحة إلى جانب المتصارعين الليبيين، وتقوم أحياناً بأدوار مساندة لدوريات صحراوية ليبية. لكن هذه الحركات لا تفاضل أيديولوجياً بين أطراف الصراع الليبي، وهدفها فقط حفظ بقائها وتعبئة الموارد المادية، والاستفادة من الصراع في دارفور لترميم صفوف مقاتليها عقب تلقيها ضربات.

المعارضة التشادية
وعلى غرار السودان، يعود وجود حركات المعارضة التشادية في البلاد إلى فترة حكم نظام القذافي، الذي شنّ حرباً ضد التشاد (1978 ــــ 1987)، واستمر لاحقاً في التدخل في صراعاته الداخلية. وإلى حدّ بعيد، تنتظم قوات المعارضة التشادية المسلحة على أسس قبلية، وبما أن الاستعمار هو من فصَّل حدود دول المنطقة، فإن هناك تداخلات بين معارضات عدد من البلدان. على سبيل المثال، ينحدر أغلب مقاتلي «تجمع القوى من أجل التغيير» التشادي من قبيلة الزغاوة، وينتمي إلى هذه القبيلة أغلب مقاتلي حركات المعارضة الدارفوية أيضاً. وهناك أيضاً حركات تشادية أغلب مقاتليها من قبيلة التبو، كما يوجد عشرات آلاف المواطنين من القبيلة نفسها. هذا التداخل يجعل الوقائع الميدانية ضبابية، حيث يساند أبناء القبائل بعضهم البعض في حالات الاستقواء على عدو مشترك، أو لخلق شبكات تهريب وتعزيزها. لكن أبرز حالات تعمية الوقائع تحدث عندما يتبادل المتصارعون الليبيون اتهامات بالاستعانة بـ«مرتزقة تشاديين»، أو يشنون حملات على مدن وبلدات بدعوى أنها تقع «تحت احتلال قوات تشادية». لا يعني ذلك عدم وجود تشاديين مسلحين في جنوب ليبيا، لكن يُتّهم ليبيون في أحيان كثيرة بأنهم من المعارضة التشادية، فقط لأنهم يساندون الطرف المقابل في الصراع الليبي. وسط هذا الجو المضطرب، تعمل فرنسا على تعزيز نظام حليفها التشادي، إدريس دبي، وهي تستفيد في ذلك من دعمها لحفتر. ففي حملته بداية العام للسيطرة على الجنوب الغربي الليبي (إقليم فزان)، أفاد حفتر فرنسا عبر دفع قوات المعارضة التشادية إلى الجانب المقابل للحدود، حيث وجدت قصف الطائرات الفرنسية في انتظارها.
يعجز مجلس الأمن عن تطبيق قرار حظر التسليح أو إدانة من يخرقه


الطوارق
توجد في ليبيا تجمعات كبيرة للطوارق في الجنوب الغربي، وعلى رغم أن أغلب هؤلاء مواطنون، إلا أن وضعهم هش. تاريخياً، يرتحل الطوارق بين جنوب ليبيا وشمال مالي، مروراً بالجزائر والنيجر، ونتيجة التقسيم الاستعماري للدول، بقوا رهائن للسياسات المتبنّاة في كل بلد. وكان القذافي قد عمل ــــ في إطار مشاريعه خارج الحدود ــــ على توظيف الطوارق، حيث استجلب منهم مقاتلين وظّفهم في «الفيلق الإسلامي» لتأسيس دولة في الساحل الأفريقي، كما وصل الأمر إلى إرسال بعضهم إلى القتال في لبنان. وعلى رغم أنه استفاد من هؤلاء المقاتلين وعائلاتهم على امتداد ثلاثة عقود، لكنه أبقاهم من دون وثائق ثبوتية. وبعد إطاحة نظام القذافي، ارتحل مئات من المقاتلين نحو شمال مالي، حيث أطلقوا تمرداً لتأسيس دولة «أزواد»، سطت عليه في الأخير تنظيمات متطرفة، وتدخلت فرنسا عسكرياً لتنهي الموضوع. اليوم، يوجد في ليبيا آلاف الطوارق الذين ولدوا هناك، لكنهم من دون وثائق هوية، ومن بين هؤلاء مئات العاملين في القطاع الأمني وحماية المنشآت النفطية، الذين يجعلهم وضعهم الهش عرضة للتوظيف من قِبَل المتصارعين في الشمال (ينطبق الأمر نفسه أيضاً على عدد من التبو).

تنظيمات إرهابية
بالإضافة إلى الميليشيات، ينشط في ليبيا عدد من التنظيمات المتطرفة، أهمها «داعش» و«القاعدة في المغرب الإسلامي» و«أنصار الشريعة». صفوف هذه الميليشيات شهدت، عند بداية نقل نشاطها إلى ليبيا وبلوغ ذروته بين عامي 2013 و2015، دخول مجندين من تونس ومصر والجزائر. لكن، مع الضربات المتتالية التي تلقتها، وفقدانها مواقعها داخل المدن الكبرى، انتقل ما تبقى منها نحو المناطق الصحراوية والبلدات الصغيرة، وقد صارت تعتمد الآن على مقاتلين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء، وفق ما يظهر من خسائرها ومن المواد الدعائية التي تنتجها.

من خارج القارة
أيضاً، تحوي البلاد مرتزقة من خارج القارة الأفريقية، وخاصة في مجال الطيران في «الكلية الجوية» في مدينة مصراتة، وبعض الطائرات التي تعمل لمصلحة قوات حفتر. وقد عانى سلاح الجو، منذ زمن حكم القذافي، من ضعف شديد في العتاد والتكوين، نتيجة العقوبات الدولية خاصة، واستمر الحال على ما هو عليه بسبب حظر التسليح منذ عام 2011. مع ذلك، عمل المتصارعون الليبيون على استعمال الموجود من العتاد والفنيين أو استقدام مرتزقة من الخارج. منذ عام 2014، عملت «الكلية الجوية» في مدينة مصراتة على تحصيل خدمات مختصين في صيانة الطائرات وبعض الطيارين، وتمكنت بمساعدة شركة أوكرانية من استقطاب عدد من هؤلاء، بينهم إكوادوريون، لكن أشهرهم طيار أميركي قُبض عليه بعد إسقاط طائرته على أيدي قوات حفتر غداة إطلاقها الهجوم على طرابلس، وتمّ تسليمه إلى بلاده بوساطة سعودية. أما قوات حفتر، فقد وظفت طيارين مرتزقة تابعين لشركة مقيمة في الإمارات، يساهم في إدارتها المالك السابق لـ«بلاك ووتر»، إريك برانس. ولتفادي حظر التسليح، وصلت إلى ليبيا طائرات صغيرة ذات استخدام مزدوج، إذ يمكن استعمالها في الزراعة ويمكن أن تحمل أيضاً صواريخ. وعمل الطيارون المرتزقة على هذه الطائرات، إضافة إلى تدريب قوات حفتر، وربما تشغيل طائرات مسيَّرة صينية الصنع مملوكة للإمارات.

خبراء «المحاور»
يوجد على الأراضي الليبية مستشارون عسكريون وضباط اتصال يعملون على أهداف مختلفة من محورين. بداية، ثمة أميركيون يعملون أساساً في التنسيق لمكافحة التنظيمات المتطرفة، وهم نشطوا خاصة أثناء الحرب ضد «داعش» في مدينة سرت، لكنهم مستمرون في التنسيق مع حكومة «الوفاق» في توجيه ضربات دقيقة في مناطق مختلفة من البلاد. بعد انطلاق الهجوم على طرابلس، ظهرت أشرطة لعملية إجلاء شملت أغلب الخبراء الأميركيين من منطقة سياحة في ضاحية جنزور غربي العاصمة. مع ذلك، يرجَّح بقاء حفنة من الأميركيين في مدينة مصراتة، للاستمرار في التنسيق. وتوجد في المدينة أيضاً بعثة تتبع الجيش الإيطالي، تشمل ظاهرياً مستشفى، لكنها تحوي على الأغلب خبراء عسكريين. في واقع الأمر، يؤدي الإيطاليون دوراً مهماً في الترتيبات الأمنية غرب ليبيا، ويقال إنهم ساهموا في تحضير الأرضية لوصول حكومة «الوفاق» عام 2016، كل ذلك بهدف ضمان استقرار يحول دون تدفق المهاجرين نحو سواحلهم. حالياً، الداعم الأكبر لحكومة «الوفاق» هو تركيا، التي لا ترى في تلك الحكومة حليفاً أيديولوجياً، بقدر ما هي ظهير ضد حفتر المدعوم من خصومها في الإقليم، لذلك، تستثمر في دعمها عبر أسلحة شملت عربات مدرعة وطائرات مسيّرة، إضافة إلى خبراء عسكريين موجودين على الأرض.
في المقابل، تحظى قوات حفتر بتسليح إماراتي ومصري وفرنسي. تشير «اعترافات» أسرى قُبض عليهم في غريان إلى وجود خبراء إماراتيين وفرنسيين في المدينة، عندما كانت تحت سيطرة قوات حفتر، أما الخبراء المصريون فهم موجودون في غرفة العمليات الرئيسة شرق البلاد. وعلى رغم أن هذه «الاعترافات» تبقى مصدراً غير كاف، لكن الثابت وجود صواريخ أميركية الصنع في غريان، بيّن تحقيق لوزارة الخارجية الأميركية أنها بيعت لفرنسا. في ردها على هذا الكشف، قالت باريس إنها لم تسلّم الصواريخ إلى ليبيين، وإنها كانت موجهة للدفاع عن قوات فرنسية تؤدي مهمات مرتبطة بمكافحة الإرهاب، علماً بأن المدينة لم تشهد قطّ حوادث مرتبطة بالإرهاب.

مقاتلون من إدلب؟
منذ انطلاق الهجوم على طرابلس، يشير الناطق باسم قوات حفتر، اللواء أحمد المسماري، إلى وجود مقاتلين إلى جانب قوات «الوفاق» تمّ استجلابهم من مدينة إدلب السورية. تكرّر هذا الادعاء مرات كثيرة من قِبَل قادة في قوات حفتر ووسائل إعلام موالية له، لكن اللافت أنه ورد أيضاً على لسان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، كاحتمال قائم. حتى الآن، لم تظهر أدلة على صحته، في وقت لا يبدو فيه أن قوات «الوفاق» في حاجة إلى مقاتلين حالياً، وخصوصاً في ظلّ «الانتفاخ» الذي يَسِمها، والعائد إلى كون المناطق الرافضة لحفتر توفر رصيداً لا ينضب من المقاتلين.
على أي حال، إطلاق الادعاء المذكور يأتي ضمن سلسلة اتهامات مستمرة لـ«الوفاق» بدعم «الإرهاب»، كما ينبع من إرادة حفتر رسم تشابهات بين الحالتين السورية والليبية، بهدف استمالة دعم روسيا، التي سبق وأن طالبها باعتبار ليبيا «سوريا ثانية» ودعاها إلى التدخل إلى جانبه. رغم ذلك، لا تراهن روسيا حتى الآن على أيّ طرف في الحرب، وهي تحاول إبقاء التواصل قائماً مع الجميع، ومن بينهم نجل القذافي، سيف الإسلام، في إطار سياسة تعتمدها في المنطقة، تحاول من خلالها جعل نفسها القطب السياسي بديلاً للولايات المتحدة.
في المقابل، شنّت حكومة «الوفاق» هجوماً كلامياً مضاداً، إذ أصدرت وزارة داخليتها بياناً بداية هذا الشهر، حذّر من «إمكانية نقل عناصر إرهابية ومقاتلين إلى ليبيا عبر مطار بنينا الدولي في مدينة بنغازي (شرق البلاد)»، وذلك على أساس رصدها منح مسؤول يتبع حفتر «تأشيرات مزورة وموافقات مكتوبة لتمكين بعض الأشخاص من حملة الجواز السوري من دخول الأراضي الليبية». كذلك، تحدث البيان عن أن حفتر يقيم «علاقات تجارية مشبوهة» مع الحكومة السورية، عبر تسيير رحلات جوية مباشرة بين دمشق ومطار بنينا، تتولاها شركة «أجنحة الشام»، ويُنقل خلالها وقود الطائرات إلى سوريا «مقابل الحصول على أموال وربما أسلحة». وذهبت الوزارة إلى حدّ التلميح إلى استقدام مخدرات، عبر الإشارة إلى ضبط شحنات منها قادمة من ميناء اللاذقية (تنتشر المخدرات في ليبيا بشكل كبير، وتتولى ترويجها شبكات ترتبط في أحيان كثيرة بمسؤولين عسكريين وأصحاب نفوذ).



ولاءات متداخلة


بما أن الاستعمار هو من فصَّل حدود دول المنطقة، فإن هناك تداخلات بين معارضات عدد من البلدان، لعل أوضحها حركات المعارضة التشادية المسلحة، التي تنتظم على أسس قبلية، ويعود وجودها في ليبيا إلى فترة حكم نظام القذافي، الذي شنّ حرباً ضد التشاد (1978 ــــ 1987)، واستمر لاحقاً في التدخل في صراعاته الداخلية. على سبيل المثال، ينحدر أغلب مقاتلي «تجمع القوى من أجل التغيير» التشادي من قبيلة الزغاوة، وينتمي إلى هذه القبيلة أغلب مقاتلي حركات المعارضة الدارفوية أيضاً. وهناك أيضاً حركات تشادية أغلب مقاتليها من قبيلة التبو، كما يوجد عشرات آلاف المواطنين من القبيلة نفسها.
هذا التداخل يجعل الوقائع الميدانية ضبابية، حيث يساند أبناء القبائل بعضهم البعض في حالات الاستقواء على عدو مشترك، أو لخلق شبكات تهريب وتعزيزها. لكن أبرز حالات تعمية الوقائع تحدث عندما يتبادل المتصارعون الليبيون اتهامات بالاستعانة بـ«مرتزقة تشاديين»، أو يشنون حملات على مدن وبلدات بدعوى أنها تقع «تحت احتلال قوات تشادية». ووسط هذا الجو المضطرب، تعمل فرنسا على تعزيز نظام حليفها التشادي، إدريس دبي، وهي تستفيد في ذلك من دعمها لحفتر.