اعتباراً من يوم غد الثلاثاء، تبدأ الهيئة العامة لمجلس النواب مناقشة مشروع موازنة 2019 بعدما خضع لتعديلات موضعية في لجنة المال والموازنة أدّت إلى خفض النفقات بقيمة 470 مليار ليرة وزيادة الإيرادات بقيمة 200 مليار ليرة، أي أن اللجنة خفضت العجز إلى 6154 مليار ليرة، مقارنة مع 6824 مليار ليرة كما ورد في مشروع الحكومة، وذلك من خلال خفض اعتمادات «أوجيرو» ومجلس الإنماء والإعمار وتأجيل تسديد بعض السلفات. هذا المستوى من العجز ليس افتراضياً فحسب، بل يصحّ وصفه بأنه «وهمي» لأنه يستند إلى تقديرات وحسابات خاطئة على ضفتي النفقات والإيرادات اللتين تضمنتا خفضاً لكلفة خدمة الدين بقيمة 1000 مليار ليرة قد يستحيل تحقيقه، وإيرادات بقيمة 400 مليار ليرة لم يتفق عليها بعد، وهو ما دفع رئيس الجمهورية إلى دعوة فريقه الاقتصادي إلى اجتماع يعقد اليوم في القصر الجمهوري، بحضور حاكم مصرف لبنان رياض سلامة للتشاور ودرس الخيارات والبدائل المتاحة.
خدمة الدين في المجهول
يأتي هذا الاجتماع بعدما تبيّن أن سيناريو إصدار سندات خزينة بفائدة 1% وبقيمة 12 ألف مليار ليرة بات أمراً مشكوكاً فيه بعد بيان صندوق النقد الدولي الأخير الذي يقول الآتي: «على مصرف لبنان أن يتراجع عن شراء السندات الحكومية والسماح للسوق بتحديد العائد على أدوات الدين الحكومية، ذلك أن شراء أدوات الدين الحكومية المقترحة ذات الفائدة المنخفضة من شأنه إضعاف الميزانية العمومية للمصرف وتقويض صدقيته. كذلك ينبغي ألا يكون هناك أي ضغط على المصارف الخاصة لشراء أدوات الدين ذات الفائدة المنخفضة». كلام الصندوق نسف الفكرة من أساسها. هي الفكرة التي روّج لها وزير المال علي حسن خليل في النسخة الأولى من مشروع الموازنة، إذ تعمّد تقليص خدمة الدين العام بمبلغ ألف مليار ليرة، ثم أبلغ مجلس الوزراء أنه اتفق مع مصرف لبنان على إصدار سندات خزينة بفائدة 1% وبقيمة 12 ألف مليار ليرة، ما من شأنه تقليص خدمة الدين بالمبلغ المذكور.
قصر النظر ليس مرتبطاً بوزير المال، بل كان هناك الكثير من مؤشرات فشل هذا السيناريو. أولها بدأ يوم دعت لجنة المال والموازنة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى الجلسة لسؤاله عن هذا الأمر. بحسب أعضاء في اللجنة، فإن سلامة لم يقدّم أي التزام يدلّ على وجود اتفاق مع وزير المال، كما أن ممثل جمعية المصارف أبلغ اللجنة أن المصارف ليس لديها فكرة ولا يمكنها أن تلتزم بهذا السيناريو.

الرسم الجمركي: إلى أين؟
على الضفة الثانية من المشروع، أي ضفّة الإيرادات، انكشفت أمام لجنة المال والموازنة الخلافات الحادّة حول مشروع زيادة الرسم الجمركي على الواردات بمعدل 2%. حزب الله كان أكثر المعترضين على هذا الرسم انطلاقاً من كونه يصيب الشرائح الاجتماعية المتوسطة وما دون. اقتراح حزب الله أن يكون هناك معايير مختلفة لزيادة الرسم الجمركي، من أبرزها: زيادة الرسم على البضائع التي ينتج بديل مماثل لها في لبنان، أو تلك التي تعدّ من الكماليات، مع ضرورة استثناء السلع الأساسية من أي ضريبة. في المقابل، هناك طرح التيار الوطني الحرّ الذي يتماثل مع السياسات النقدية الانكماشية التي تسعى إلى خنق الاستيراد لتخفيف الطلب على الدولار (يدفع لبنان ثمن السلع المستوردة بالدولار).
تقول مصادر مطلعة، إن مواجهة حزب الله ــــ التيار الوطني حول الرسم الجمركي، أجبرت لجنة المال والموازنة على تجميد هذا البند من دون عرضه على التصويت «حتى لا تسقط إيراداته» بحسب مصادر اللجنة، إذ إنه بات ضرورياً أن تبقى الإيرادات المقدرة منه في الموازنة حتى لا يزداد العجز، لكن طُلب من الحكومة إعداد مشروع متوافق عليه. مجدداً، انطلقت رحلة البحث عن إيرادات من الرسم الجمركي واتّفق على أن يزاد الرسم بمعدل يتراوح بين 2% و7% تبعاً لنوع السلع. المعايير المتفق عليها أن لا يؤدي الرسم إلى زيادة نسب تركّز الاحتكار وأن تستثنى السلع الأساسية. فقدّمت جمعية الصناعيين، بالتنسيق مع وزارة الصناعة، لوائح بنحو 1300 سلعة يمكن زيادة الرسم عليها. وفيما بدأ العمل على دراسة هذه السلع، فوجئ وزير الاقتصاد منصور بطيش بصدور بيان عن وزير المال يتحدّث عن تقديم اقتراح لمجلس النواب يحدّد السلع ونسبة الزيادات الجمركية عليها خلال يومين، فيما يتطلب الأمر بضعة أسابيع لدراسة كل هذه السلع.
رغم ذلك، يجري العمل على تسوية تشمل زيادة الرسم الجمركي على كل السلع التي تخضع لضريبة TVA، واستثناء السلع المستثناة من الـ TVA.

بلاهة المؤشرات
النتائج المالية لسيناريوات خفض خدمة الدين العام وزيادة الرسم الجمركي، ليست تفصيلاً صغيراً في بنية الموازنة. أيّ خلل بهذا الحجم سيكون له مضاعفات حادّة على الأهداف التي حدّدتها الحكومة لنفسها بشكل اعتباطي، أي خفض العجز كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي من 11% إلى 7.6%، قبل أن تعلن لجنة المال والموازنة أنها خفضتها إلى 6.9%. فعلى سبيل المثال، إن عدم تحقق مسألة خفض كلفة خدمة الدين العام، سيزيد العجز إلى 8% من الناتج، كما أن عدم الحصول على الإيرادات المرتقبة من زيادة الرسم الجمركي سيزيد العجز 7.4%، أما عدم تحقّق كليهما فيعني أن العجز سيبلغ 8.5%.
كلفة خدمة الدَّين العام وزيادة الرسم الجمركي لا تزالان قيد الدرس


الحسابات الخاطئة للحكومة لا تنحصر بالسيناريوات المتصلة بالنفقات والإيرادات. هذه «البلاهة» تشمل تقديرات النموّ الاقتصادي أيضاً. فالحكومة تتوقّع نسبة النموّ الاقتصادي لعام 2019 بنحو 1.3%، أي أن الناتج المحلي الإجمالي سيرتفع إلى 88855 مليار ليرة (58.9 مليار دولار)، من دون أن تنظر إلى الأثر الناتج من السياسات النقدية الانكماشية التي يمارسها مصرف لبنان في سبيل الحدّ من الطلب المتزايد على الدولار، ولا السياسات التقشفية الواردة في الموازنة التي تخفف من إنفاق الحكومة، ولا الزيادات الضرائبية التي ستدفع إلى المزيد من الانكماش والتهرّب الضريبي. فوق ذلك كلّه، فإن تقديرات صندوق النقد الدولي تشير إلى أن اقتصاد لبنان لن ينمو في السنة الجارية، بل سيتقلص بنسبة 1%... فكيف سيتم احتساب هذا الأمر في مؤشرات العجز نسبة إلى الناتج؟



صندوق النقد: الدَّين خارج السيطرة
لا يصدّق خبراء صندوق النقد الدولي ادعاءات الحكومة بتنفيذ الإجراءات التي تتعهد بها وبنتائجها. البيان الأخير للبعثة الرابعة التابعة للصندوق يشير إلى أن موازنة 2019 تستهدف عجزاً بنسبة 7.6% من إجمالي الناتج المحلي، من أجل «تصحيح الانحرافات في العام الماضي واللحاق بالمسار الذي تم التعهد به في مؤتمر سيدر». يعدّد الصندوق أهم الإجراءات (زيادة الضريبة على الدخل من الفائدة من 7% إلى 10%، فرض ضريبة على السلع المستوردة بمعدل 2%، وتجميد التوظيف والتقاعد المبكر في القطاع العام)، إلا أنه يقول الآتي: «التقديرات الأولية لخبراء صندوق النقد الدولي، تشير إلى أن إجراءات الموازنة ستخفض عجز المالية العامة المحسوب على أساس نقدي إلى 9.75% من الناتج المحلي. ورغم أن الموازنة لم يتم إقرارها بعد ولم يتأكد بعد الشكل الذي ستتخذه الموازنة المعتمدة، فمن المرجح، استناداً إلى المعلومات الحالية، أن يكون العجز المتوقع أعلى بكثير من المستوى المستهدف الذي أعلنته السلطات». ويضيف الصندوق إن هناك «عدم يقين بشأن رصيد أوامر الدفع القائمة وعملية تسويتها التي ستؤثر على العجز النقدي في عام 2019»، ثم يخلص إلى القول بأن «الدَّين سيظل على مساره التصاعدي».