أنصف مجلس شورى الدولة التل الأثري في وسط بيروت بقراره الأخير القاضي بإيقاف العمل في العقارين 1474 وإعادة الإعتبار لقرار وزارة الثقافة القاضي بوضعه على لائحة الجرد الأثري. يأتي هذا «الإنصاف» من الشورى ليسقط القرار المجحف الذي كان قد اتخذه المجلس نفسه قبل بضعة أشهر وقضى بموجبه إسقاط الحماية عن التل. يحدث كل ذلك، فيما الدولة تقف متفرجة عن سابق إصرار وتصميم.بعد عشر سنوات، أنصف مجلس شورى الدولة، ولو مؤقتاً، التل الأثري في وسط بيروت. إذ أصدر مؤخراً قراراً - يسقط قراراً سابقاً له يحمل الرقم 1187 - يقضي بإعادة العمل بـ«قرار وزير الثقافة رقم 71 الذي أدخل منطقة التل الأثري في مدينة بيروت وامتداداته في لائحة الجرد العام للأبنية الأثرية». القرار جاء بعدما قبل «الشورى» دعوى «اعتراض الغير» التي تقدمت بها «جمعية الإنماء الثقافي والاجتماعي» (إنماء)، وأوقف العمل في العقارين 1474 اللذين يقع التل فوقهما. وهو ما يشكّل أملاً بحماية واحد من آخر المواقع الأثرية من التدمير الممنهج الذي طال مواقع كثيرة، ليس آخرها السور الروماني، بقرارات إفرادية صادرة عن وزراء الثقافة المتعاقبين.
التل الأثري في وسط بيروت(هيثم الموسوي)

في آب 2008، بدأت «تغريبة» التل. يومها باعت سوليدير العقارين 1474 لشركة عوده - سردار، ضاربة عرض الحائط بقرار (يحمل الرقم 10) صادر في نيسان 1996 يضع «الأبنية الأثرية للموقع الأثري في وسط بيروت والمعروف بمنطقة التل القديم على لائحة الجرد العام للأبنية التراثية». بعد فترة وجيزة، بدأت المجموعة التي أسست شركة عقارية تحمل اسم «المرفأ» العمل في الموقع بإشراف المديرية العامة للآثار. يومها، تنبّه «جيران» التلّ إلى أن «ثمة أموراً مهمة بدأت تظهر وتؤرخ لمرحلة من تاريخ العاصمة ولا يمكن العبور فوقها»، يقول جواد عدرا، رئيس الجمعية. راسل عدرا غالبية المستثمرين في الشركة للعدول عن المشروع باعتبار أن الموقع أثري ويستحق الحفاظ عليه، و«أنتم لستم بحاجة للأموال».
تقدمت عوده - سردار أمام «الشورى» بمراجعة تطلب بموجبها إبطال قرار وزارة الثقافة رقم 71 (العام 2012) الذي قضى بإدخال العقار 1474 ومعه مجموعة من العقارات على لائحة الجرد للأبنية التراثية بعد اكتشاف مقتنيات أثرية. وبالفعل كان للشركة ما أرادت بعدما وافق المجلس على الإبطال واستكمال العمل في الموقع. حدث ذلك، كما دائماً، بسبب تقاعس الدولة عن القيام بأبسط واجباتها: حماية تاريخ البلاد. ففي هذه المراجعة، لم يقدّم «الخصم» - وهو وزارة الثقافة - اللائحة الجوابية، وكان صمتها قاتلاً، فكان لا بد من قرار أخير.
عندها، قدّمت جمعية «إنماء» اعتراضاً لدى «الشورى» ضد الدولة، ممثلة بوزارة الثقافة، مع إدخال شركة «المرفأ» ضمن الشكوى. حمل «اعتراض الغير» مطلباً وحيداً: «الحفاظ على التاريخ الأثري للمنطقة»، يقول عدرا. كان ثمة تعليل أساسي لهذا الإعتراض وهو أن القرار 71، الصادر عن وزارة الثقافة، لا يمسّ «بصورة مباشرة وشخصية» العقار 1474، وإنما جاء ليحمي كامل المنطقة المصنفة أصلاً. انطلاقاً من ذلك، جاء قرار مجلس الشورى، في نيسان الماضي، بقبول الإعتراض شكلاً وأساساً. «القرار المنصف»، برأي الجهة المعترضة، يبقى منقوصاً، لكونه لا يحمي التل بشكلٍ نهائي، وإنما مؤقتاً. مع ذلك، «في أمل»، إذا ما اقترن الأمر بالأسباب التي أوردها «الشورى» في قراره الأخير، ومنها اعترافه بمخالفته النظام الداخلي والقانون، إذ لم يقدر «أهمية المكتشفات الأثرية واستند حصراً إلى الوقائع المدلى بها من قبل الجهة المستدعية ولم يتحقق من اهمية المكتشفات (…) من خلال تكليف خبير أثري محترف». ثمة سبب آخر، لا يقل أهمية، وهو العطب الذي يصيب أصل القرار، والذي أحلّ من خلاله مجلس الشورى، بغير وجه حق، «آلية الدمج مكان الإدراج على لائحة الجرد».
القرار المنصف» يبقى منقوصاً لكونه لا يحمي التل بشكلٍ نهائي

وهو ما يخالف القانون، كون المرسوم الذي ينصّ على آلية الدمج (المرسوم 3065) صدر بعد تقدم الجهة المستدعية بمراجعتها وبعد صدور القرار القضائي بشأنها! وهو ما كان سيطرح علامة استفهام حول الآلية التي كانت ستتبع للدمج الذي قيل إنه سيحاكي تجارب «عالمية». لكن، فات هؤلاء أن الإستعانة بتجارب الدول المتقدمة ينتقل «هجيناً» إلى هذه البلاد وتصبح معه الآثار مجرد «ديكورات». والدلائل كثيرة، يمكن في هذا الإطار الإستعانة بتجربة الدمج في مبنى جميل ابراهيم في سرسق، حيث حُبست المقتنيات الأثرية في غرفة زجاج عند مدخل المبنى الذي يحمل 40 طبقة. أكثر من ذلك، يمنع الإقتراب منها، وهو ما يعزّز تالياً فكرة أن المكتشفات التي يعاد دمجها يبطل مفعول ملكها العام وتصبح ملكاً خاصاً لمن «يشتري» الموقع.
هكذا، أصدر مجلس الشورى في آخر المطاف قراره بقبول «اعتراض الغير»، وأبطل ما كان قد اتخذه سابقاً، بعدما تبيّن له أنه «بني على أسس غير صحيحة». لكن لا يزال ثمة درب أطول إلى حين صدور قرار قضائي نهائي يضمن حمايته من عدمها. ما حصل حتى هذه اللحظات هو توقيف مرهون بالوقت. مجرّد اعتراض، ولكنه «مفيد، إذ أنه لولا الإعتراض لما كان هذا التوقيف وكان ممكن يكونوا عم يشيلوه». ما تبقى، رهن بما ستنتجه مراجعات الجهتين، المعترضة والمدعى عليها. أما الدولة، والتي من المفترض أن تكون في موقع المدافع الشرس عما تبقى من هوية هذه البلاد، فقد اعتكفت عن هذا الدور منذ سنين طويلة. والدليل؟ الآثار التي طمرت.