لم تعش جنى مزهر الحرب التي عاشها والداها. كانت تلتقط أخبار تلك المرحلة مما تبقى في ذاكرتهما لتحيك منها «نسختها» الخاصة عن أحداث سنواتٍ طويلة جرت قبل ولادتها. مع ذلك، ثمة ما كان ينقصها: قصص البيوت العتيقة وناسها الذين لم يتركوا سوى أثر ذكريات خلّفوها في زواياها المهجورة. تلك التي لم يروِها أحد لها، والتي صارت هاجساً دفعها للبحث عنها. ولأنها «ومن مثلي لم نعش الحرب، فلن نصدّق كيف صارت القصص إلا إذا اكتشفناها بأنفسنا». من هنا، بدأت مزهر «هوايتها» التي استحالت مع الوقت «شغفاً»، كما تقول. كان ذلك قبل ثلاثة أعوام، عندما بدأت الشابة أولى رحلاتها «الإستكشافية» بين البيوت المهجورة في بيروت، حيث تسكن. اليوم، لم تعد رحلاتها مجرّد هواية «لنعرف كيف صارت القصص بإيام الحرب». استحال الشغف مشروعاً جامعياً نالت اثره شهادة الماجستير من جامعة ألبا.صنعت مزهر من مشروعها «لعبة» حاولت من خلالها تركيب لوحة «بازل» عن الحرب والتراث في آنٍ. بدأت «لعبتها» في بيروت، واكتشفت أن شغفها له اسم: “urbex” ـ (urban exploration). استطاعت من خلاله «استكشاف البيوت المهجورة وتخيّل الحيوات التي كانت فيها»، وفي بالها تحقيق هدفين: «المساهمة، ولو بجزء ضئيل، في التوعية على أهمية تلك الأماكن من خلال إبراز جمالياتها المنسية تحت الغبار، ومن جهة أخرى جرّب إكتشف مين كان عايش بهيدا البيت». تعرف مزهر بأن الحرب، التي صار لها من العمر 44 عاماً، جرفت كثيراً من البيوت التراثية. ما تبقّى منها ينقسم اليوم إلى قسمين: بيوت مهجورة فارغة من أي أثر، وأخرى فرّ سكانها خوفاً وتركوا خلفهم حياة كاملة: صور، رسائل، رفوف مليئة بالكتب، وخزائن ملابس كأنها وُضّبت للتو. من تلك البيوت، نسجت قصصاً متخيّلة عمن عاشوا فيها - «ضحكاتهم وأحلامهم وآلامهم من خلال التفاصيل التي خلفوها بعد رحيلهم»، وبعدما «ركبوا عربيات الوقت وهربوا بالنسيان» كما تغني فيروز.

تروي مزهر سيرة بيوت «استكشفتها». منها بيت لآل الدهان في الجميّزة. استغرق نسج قصته أربع زيارات متتالية. في المرة الأولى كان البيت مقفلاً، فلم تستطع الدخول إلا إلى «المخزن» (أسفل البيت) الذي كانت أبوابه مشرّعة. هناك، وجدت مجموعة من «ماكينات الخياطة والقمصان المعلّقة وعلب أزرارٍ قديمة». لم تستطع أن تستشف رواية البيت إلا بعد الزيارة الثانية. عرفت اسم صاحبه من ورقة «نعوة» كانت أمام المدخل الرئيسي. اسمه سليم الدهّان. هو الآن بطل قصّتها. عاش سليم هنا حتى وفاته. هذا ما أخبرها به ابن شقيقه جوزف الذي فتح لها أبواب المنزل. كان كل شيء لا يزال على حاله تحت الغبار. غرفة الجلوس المغطاة بشراشف بيضاء. الكرسي الذي يجاور رفوف كتب سليم. كل شيء. من أغراض البيت، اكتشفت ساكناً آخر: عفيفة شقيقة سليم. عرفت ذلك من حقيبة «جهاز العرس التي كانت لا تزال كما وضّبتها، ولا يزال خط يدها على الحقيبة ظاهراً حيث سجلت ما تحويه من أغراض». في تلك الأيام، كانت الشابة عندما تصبح في سن الزواج توضّب جهاز عرسها، وهذا ما فعلته عمّة جوزف. عرفت مزهر، في ما بعد، تتمّة قصة عفيفة الدهان من جوزف: «لم تتزوج، وعاشت في البيت العتيق مع سليم حتى وفاته ثم وفاتها»، فيما بقيت الحقيبة مقفلة وموضبة كما هي. قبل أن يحدث كل ذلك، كان «العم سليم» هاوياً لجمع الساعات القديمة التي يحتفظ بها جوزف اليوم ولرياضة الـ «water polo” والسفر. عرفت ذلك من «ألبوم» الصور الذي يوثّق محطات من الأعوام الثمانين التي عاشها.
نسجت قصصاً متخيّلة عمن عاشوا في تلك البيوت من خلال التفاصيل التي خلّفوها بعد رحيلهم


مات سليم وأُقفل البيت إلى غير رجعة. جارته العجوز التي تعيش هي الأخرى وحيدة، تخشى من أن يلقى بيتها المصير نفسه. تقول: «نحن خيفانين بس نموت شو رح يصير ببيوتنا. جاري توفى كان عايش لوحدو وبيتو تسكّر».
منزل آخر زارته مزهر في منطقة الرميل. بيت آل سلامة. لا يزال هو الآخر كما تركه أصحابه. وجدت فيه «معلومات هائلة وقصص كتير حميمية». كان يسكن البيت شاب من آل سلامة، عاش أيام الحرب فيه، وهذا ما يظهر من «رسالة كتبتها اليه إحدى صديقاته من فيينا تسأل فيها عن أحواله». في شقٍ آخر من حياته، تظهر الصور عائلة سلامة. نساء وأولاد «بثياب الحقبة التي عاشوا فيها». رحلاتهم. ضحكاتهم. سنوات عمرهم التي تتدرج بين الصور. ثمة تفاصيل أخرى: فواتير المياه والكهرباء «بالليرة والقرش»، والثياب المعلقة بأناقة في الخزائن. كل شيء على حاله، «كأنّو شوي وراجعين».

حقيبة عفيفة الدهان

عشرة بيوتٍ زارتها مزهر إلى الآن. كانت البداية مع «معمل البيرة»، في مار مخايل النهر، الذي زارته صدفة. سقط المعمل مؤخراً، وبقي معها بعض من حكايته. بعد هذا السقوط، صارت مزهر تكتب قصص البيوت التي تزورها علّها تترك شيئاً لمن سيأتي بعدها. ثمة بيوت كثيرة هدمت قبل أن تتعرف إلى قصصها. لكن، لحسن الحظ، هناك ما لم يطله الهدم بعد. «لكي يبقى شيء من هوية المدينة التي تكاد تختفي تحت بلوكات الباطون اليوم»، تذيّل مزهر كل صورة بقصّة مكتوبة، خوفاً من أن تندثر كما اندثر ما قبلها. فـ«بيروت انهدمت سبع مرات. بس ولا مرة عرفنا شي قصة عن كل مرة».
لأجل تلك القصص، تقضي مزهر جلّ أوقات فراغها متسلّلة إلى المباني المهجورة لإعادة رسم ملامحها. وتشارك في مشروع تنافسي تنظمه جامعة البا وفرنسبنك تحت عنوان «المدينة إذ تكذب». وقد وجدت في مشروعها مادة مطابقة، فبيروت تكذب من خلال طمس تراثها واستبداله بقشور تجميلية لا يمكنها أن تصنع تاريخاً. وهذا أخشى ما تخشاه.