لم تكن كرة القدم اللبنانية منصفة يوماً بحق أبنائها. هي السجن الذي أسرهم بتوقيعٍ أبدي، وهي الاستغلال بحدّ ذاته لهم في أنديةٍ عدة. كما أنها السبب أحياناً في رميهم نحو مستقبلٍ مجهول ومليء بالعذابات. كلامٌ قد يجده البعض مبالغاً فيه، لكن في هذه الحالة يمكن سؤال لاعبين كانوا نجوماً يوماً وعاشوا المرارة الكبرى بعد اعتزالهم اللعبة التي كانت لفترةٍ طويلة مرادفة لأسمائهم. هنا تحضر أسماء الكثيرين من نجوم الزمن الجميل، من حارس المرمى عبد شبارو وصولاً إلى عبد الفتاح شهاب ومحمد مسلماني وغيرهم الكثيرين الذين لم يجدوا بعد توقّفهم عن اللعبة وظيفةً تؤمّن لهم حياةً مقبولة، فعاشوا الصعاب التي يعرفها الجميع ولا يفترض ذكرها مجدداً احتراماً للتضحيات التي قدّموها في الملاعب.أسماءٌ كثيرة أيضاً عاشت عذابات الكرة، وكلّها سجّلت ندمها للاستمرار في الميادين الرياضية من دون التفكير المسبق بمستقبلها. لكن هناك قسمٌ آخر لا يستطيع التحرّر من عشقه وارتباطه بالمستديرة، فبقي في الملاعب رامياً رهاناً قد يكون خاسراً، كضربةٍ قاضية تُسقطه مستقبلاً وتجعله غير قادرٍ على الحراك.
هي مشكلة اجتماعية لا رياضية بشكلٍ عام، إذ إن معاناة لاعبي كرة القدم لتأمين لقمة العيش ترافقهم منذ اليوم الأول لتوقيعهم على كشوفات أحد الأندية المحلية، وتلاحق غالبيتهم حتى آخر لحظات حياتهم مثل «لعنة فرعونية» لا ترحم حتى تقضي على ضحيتها.
من هنا، يبدو مبرراً ما أقدم عليه الكثير من اللاعبين وعلى رأسهم قائد منتخب لبنان حسن معتوق، بطلب مبالغ كبيرة للتوقيع على كشوفات هذا النادي أو ذاك، إذ إن عمر اللاعب قصير، وبالتالي عليه أن يفكّر بمستقبله قبل أن يرتبط عاطفياً بأيّ فريقٍ حتى لو كان هو الفريق الذي حلم دائماً بالدفاع عن ألوانه. فكرةٌ كانت حاضرة بالمناسبة بشكلٍ دائمٍ في ملاعب كرة السلة التي وُسم لاعبوها بعبارة الجشع أو «أبو ليرة» كونهم اختاروا دائماً المال على حساب الانتماء، والدليل تنقلاتهم الكثيرة بين الأندية موسمياً. كما اتُّهموا بالطمع بسبب وصول المبالغ التي يتقاضونها إلى أرقامٍ كبيرة جداً. لكن الواقع أنّ كل ما يحصل على الساحة السلوية لناحية مقاربة اللاعبين لاتفاقاتهم مع الأندية هي مسائل مبرّرة إذا ما نظروا إلى زملائهم في كرة القدم، الذين يعانون الأمرّين إن كان في بيئتهم الحاضنة، أو في المجتمع اللبناني بشكلٍ عام، حيث لا اهتمام رسمياً أو التفافاً شعبياً حول اللعبة للمساهمة في نهضتها مالياً.

حلمٌ ثم اعتزال
بالأمس القريب خرج لاعبان من صفوف نادي الأنصار من دائرة الضوء نهائياً. علاء البابا وغازي حنيني ليسا باللاعبين العاديين أبداً، لكنهما وجدا أنه من الأفضل لهما أن يهجرا الملاعب، قبل أن يعيشا في هجرةٍ داخل بلادهما ومن دون أي ضمانات مستقبليّة. هما قررا الابتعاد وإعلان الاعتزال رغم أن البابا لا يزال في الـ26 من العمر، بينما لم يتجاوز حنيني الـ25 أيضاً. فعلاً، تُعدّ الخطوة مفاجئة إلى حدٍّ كبير، لأن الاثنين حلما دائماً باللعب للأنصار نفسه دون سواه، وهما أصبحا جزءاً من فريقٍ مرشحٍ بقوة لإحراز لقب الدوري في الموسم المقبل، لكن كل هذا لم يعد يعني لهما شيئاً، فالقلق والخوف من المستقبل هو الذي شغل بالهما منذ الموسم الماضي.


يقول البابا في حديثٍ مع «الأخبار»: «لا أملك عقداً كبيراً مع الأنصار يقارب عقود اللاعبين الذين يشغلون مركزي. كما أن الوقت الذي شاركت فيه خلال الموسم الماضي لم يكن كبيراً، وقد عانيت أيضاً من بعض الأمور الداخلية ما دفعني إلى التفكير بالاعتزال». ويضيف، «لم أتردد في القيام بهذه الخطوة أخيراً بعدما لمست أن الأجواء لا تناسبني على الإطلاق، وهناك ما يتم تحضيره وهو لا يتلاقى مع ما كنت أتطلع إليه». ويعقّب اللاعب الذي لا يزال هناك 3 مواسم في عقده مع الفريق الأخضر، شارحاً بأنه متزوج ولديه ولدان ويعيش في شقة مستأجرة، وقد بات ملزماً بتأمين مستقبله ومستقبل عائلته، «لذا سأهتم بالأكاديمية التي أنشأتها، وهي أفضل الأكاديميات في صيدا وتضم أكثر من 150 لاعباً. هناك يمكنني أن أرى أملاً أكبر بالنجاح وبتأمين ظروفٍ معيشية أفضل من تلك التي انتظرتها طويلاً في كرة القدم».
معاناة اللاعبين لتأمين لقمة العيش ترافقهم منذ اليوم الأول لتوقيعهم على كشوفات أحد الأندية


ابن صيدا الآخر أي غازي حنيني هو من أفضل لاعبي خط الوسط في لبنان، وقد لعب سابقاً للمنتخب الأول وحمل شارة قيادة المنتخب الأولمبي. لاعبٌ معروف بأخلاقه وروحه الرياضية، داخل وخارج أرض الملعب، لكنه يرى اليوم أن اللعبة سقطت أخلاقياً في أماكن عدة، وبالتالي لم تعد المساحة التي يريد الوجود فيها. ويقول حنيني في حديث مع «الأخبار»، «لقد تعبت ودرست الهندسة الميكانيكية في واحدةٍ من أفضل الجامعات في لبنان، وقد أنهيت دراستي منذ عامين، لكنني لم أستخدم شهادتي للحصول على وظيفة حتى تحقق هذا الأمر قبل فترةٍ قصيرة». ويتابع، «هنا راجعت أفكاري واستشرت أهلي والمقرّبين، وقد وجدت أن من الأفضل تفادي كل تلك العذابات في الملاعب المهترئة وحيث المحسوبيات والحسابات الخاصة، وقررت أن من الأفضل لي ولمستقبلي أن أدخل ميدان العمل وأترك ميادين الكرة».
لا ينفي حنيني الذي كان عقده ضعف عقد البابا تقريباً، أنه استفاد من ممارسة كرة القدم على الصعيد الشخصي، فتمكّن من شراء سيارة وشقة، لكن في نهاية المطاف عرف في قرارة نفسه أن الأفق ضيّق جداً، «صحيح أنني أتقاضى في وظيفتي الآن أقل بضعفين من راتبي في الأنصار، لكن أقله أعرف إلى أين سأتجه في حياتي المستقبلية، علماً أنني كنت قد أسست أكاديمية في صيدا مع زميلي الحارس محمد سنتينا (شباب البرج)، وقد أصبحت قادراً الآن على منحها المزيد من الوقت وتطويرها لتكون عملاً إضافياً لي».

هجرة من الملاعب والبلاد
البابا وحنيني ليسا الوحيدين اللذين اختارا هجر الملاعب، لا بل إن هناك لائحة طويلة من اللاعبين الذين أقدموا على هذه الخطوة وأكملوها بهجرة قسرية إلى خارج البلاد. والأكيد أن الأسماء التي تركت اللعبة سابقاً شكّلت خسارة للأندية وللمنتخب على حدّ سواء. وهنا يمكن التوقّف عند الحارسَين حسن بيطار ولاري مهنا، اللذين كانا حاجةً أساسية في ظل الضعف الذي عاناه المنتخب، في مركز حراسة المرمى حيث اضطر القيّمون للبحث عن حراسٍ في الخارج لسدّ النقص. قدرات بيطار الذي لعب قبل هجرته مع أفضل فريقٍ في لبنان أي العهد، وقدرات مهنا الذي وقف بين الخشبات الثلاث للمنتخب والأنصار، لا جدال حولها. لكن الجدال دار في رأس الرجلين وسط اختلاط أفكارهما بين الاستمرار في الملاعب حيث لا يمكن تأمين المتطلبات الأساسية للحياة، وبين الذهاب نحو البحث عن عملٍ في الخارج يؤمّن لهما لاحقاً حياة كريمة. بيطار كغيره من اللاعبين الكثيرين الذين انتظروا تحقيق وعودٍ طويلة بتأمين الأندية وظائف لهم لكن دون أي نتيجة، حطّ في أنغولا وبقي اسمه متداولاً في السوق اللبنانية في كل مرة حُكي فيها عن بحث نادٍ عن حارسٍ جيّد، لا بل إن البعض ربطه بالعودة إلى العهد في أكثر من مناسبة، لكن ردّه غالباً على كل هذا الكلام كان ساخراً، فبدا واضحاً أن الكرة لم تعد تعني له الكثير، وخصوصاً بعدما لمس كمراقبٍ مدى المآسي الموجودة فيها.
وفي اتصالٍ مع «الأخبار» يشرح بيطار، «تركت اللعبة للمرة الأولى عام 2011 في سن الـ26، لكنني عدت بعد الفورة التي عرفها المنتخب حيث شعرت بأنه يمكن البناء عليها للعبور بكرة القدم اللبنانية إلى مرحلةٍ أفضل، لكن التخبيص بقي نفسه أينما كان، والعقلية بقيت على حالها والملاعب ساءت حالتها أكثر، فعدت إلى اعتزالي بلا عودة بعد 3 أعوام». مهنا أيضاً ترك اللعبة وعاد، ثم سلك نفس مسار بيطار عندما وجد نفسه أمام حياةٍ جديدة بعد الزواج، حيث يفترض أن يشتري منزلاً على أقل تقدير. لكن ما كان سيتقاضاه في الأنصار لم يكن يكفيه لسدّ حاجاته، فقرر الهجرة إلى فرنسا حيث نشأ، ليبدأ عملاً خاصاً لا يشبه إطلاقاً ما فعله لسنواتٍ طويلة في لبنان. هناك في العاصمة باريس يعيش الحارس الرقم 1 سابقاً للمنتخب حياة مستقرّة حيث اشترى شقة بتسهيلات منطقية، وبقي يمارس اللعبة على سبيل الهواية مع أحد فرق الدرجات الدنيا من دون أن يفكّر بالعودة إلى الملاعب اللبنانية.

يصف لاعبون أنفسهم بـ«المتسوّلين» على أبواب رؤساء الأندية وأمناء السرّ الذين يحرمونهم أحياناً من حقوقهم


والمفارقة أن لاعباً آخر من الأنصار (المستقر مادياً أكثر من غيره)، كان قد اتّخذ القرار نفسه، وهو عمر عويضة الذي هاجر إلى ألمانيا بعد زواجه، تاركاً اللعبة التي برز فيها مع أنديةٍ عدة ومع المنتخب لفترةٍ غير قصيرة. وقبله ترك الدولي السابق أحمد الشوم الأنصار وهو في منتصف مسيرته وذهب إلى الخليج بحثاً عن مسيرة أخرى في الإعلام الرياضي. كما خسر المنتخب أحد أبرز مواهب الجيل الجديد في خط الوسط، وهو لاعب الصفاء السابق عامر خان الذي ترك البلاد إلى ألمانيا أيضاً وهو في عزّ عطائه.
ومثلهم فعل عمر زين الدين في الموسم الماضي رغم بدايته القوية مع النجمة وانتقاله بمبلغٍ كبير إليه من السلام زغرتا، فخاض 5 مباريات فقط مع «النبيذي» قبل أن يحجز رحلة إلى بلجيكا بعد زواجه بدافع ترتيب بعض الأوراق الخاصة، لكن تبيّن بعدها أن الرحلة كانت في اتجاهٍ واحدٍ ومن دون عودة، ليخسر النجمة ورقة كان يهدف إلى الاعتماد عليها بشكلٍ كبير في موسمٍ عانى فيه الفريق كثيراً بسبب النقص في صفوفه.
أما القاسم المشترك بين كل هؤلاء فكانت كلمة اليأس من الواقع الذي يعيشونه، حتى أن بعضهم وصف اللاعبين بـ«المتسوّلين» على أبواب رؤساء الأندية وأمناء السرّ الذين يحرمونهم أحياناً من حقوقهم بسبب مزاجيتهم، أو لأنهم لم يعجبوا بأدائهم في هذه المباراة أو تلك، مشددين على أن اللاعب يمرّ بظروفٍ نفسية كأيّ شخصٍ يعاني من مشاكل في المجتمع، لكن المفارقة أن هذه الظروف التي تؤثر سلباً في حياتهم الكروية ترتبط بالكرة بحدّ ذاتها، والتي تقتل طموحاتهم بعدما كانت أجمل أحلامهم.