حين كتب أنسي الحاج (1937 ـ 2014) باكورته «لَنْ» (1960)، كان الحرف الذي في العنوان يعني نوعاً من الامتناع أو الرغبة في التوقف عن الاستمرار في كتابة ما يُكتب. وكان في ذلك نوع من الازدراء للجملة العربية التقليدية. كان «لن» حرفاً واحداً ومتفرّداً وصادماً، وكان الحرف الواحد الوحيد المنقطع عما يليه تأويلاً للرفض ومديحاً له، تأويلاً للتلعثم والركاكة ومديحاً لهما أيضاً.
«إنني حقاً متلعثمٌ»، كتب الشاعر في ذلك الديوان الأول الذي سيصبح منذ إصداره بداية رسمية لقصيدة النثر العربية التي ستُكتب لاحقاً بطرق وأساليب وحساسيات مختلفة عما بشّر به أنسي الحاج، بل إن الشاعر الراحل محمد الماغوط كان قد سبقه بعام واحد إلى كتابة قصيدة نثر مختلفة في باكورته «حزن في ضوء القمر» (1959)، لكن ريادة قصيدة النثر التصقت بـ «لن»، ولعل المقدمة النقدية الشهيرة التي استُهلّ بها الديوان هي التي عززت هذا الانطباع عن ريادة أنسي وديوانه الأول. ما يهمنا في لحظة غيابه أن نسجّل أن الشعر الذي كتبه في «لن» لم يذهب بعيداً عن منبعه، وعن دفقته الأولى، وأن النبرة التي أراد بها تحطيم الجملة العربية الكاملة ظلت تتحرك في الموضع ذاته. في الموضع الذي أُريد للقصيدة أن تكون طفلة جميلة ومتلعثمة وشقية وغريبة عما حولها فيه.
لقد حفر أنسي الحاج في المكان الذي بدأ منه، وفي الجوار المحيط بهذا المكان. لم يذهب أبعد من ذلك في «الرأس المقطوع» (1963) الذي هو استمرار آخر لـ «لن» على أي حال، ولم يذهب أبعد حتى في دواوينه التالية، وكذلك في «خواتم» التي كتب آخر نصوصه تحت عنوانها. لقد ظلت تجربة أنسي محكومة بطفولة شعره، وصعقة ولادته الأولى. صحيحٌ أن جملته استراحت أحياناً من توترها وهجوميتها وجحيميتها، وتخففت أحياناً أخرى من شِجَارها المدهش مع اللغة ومع المخيلة، إلا أن ذلك لم يكن تصالحاً كاملاً ونهائياً بين الشاعر وجملته نفسها. لقد ظلت روحية «لن» حاضرة حتى في القصائد التي حظيت ببنية سويّة ومنسابة في دواوينه التالية. كان «لن» نبتاً شيطانياً، وكان مكتوباً لصاحبه أن يظل ممسوساً بتلك الروحية التي كُتبت ضدّ اللغة وضد البلاغة وضد الجماليات التقليدية. كان «لن» مجازفةً بمعاني الكلمات في القواميس، وتمريغاً لها في أرض وعرة. لعب أنسي الحاج بمصير الكلمات، وتعامل مع قصيدة النثر التي بشّر بها وكتبها كأنها مستشفى للأمراض والانحرافات. كان شيئاً مباغتاً ومُجفِّلاً أن نقرأ سطوراً مثل: «نُكحتُ من بؤبؤيّ وعلى الورقة كتبتُ بياضاً»، و«عوض أن تُقبل من أمكَ تزوّجها»، و«أُسرطنُ العافية»، ولكن ذلك كان يترافق مع صور أقل عصفاً وأكثر عذوبة مثل «لآكلكِ عشاقكِ أنضجوكِ»، و«غداً تقولون: أعماهُ شعرها الطويل»، و«أنا جائزةٌ باسمكِ».
خصوصية أنسي الحاج بدأت بالرغبة في كسر الفصاحة وإفساد الجملة واللعب بذائقة القارئ. صفاتٌ مثل هذه كانت تُفسد عليه هو أيضاً لذة إكمال الجملة وإشباع المعنى، وهو ما نجده في أغلب نصوص ديوانه الأول ومنها قصيدة «سِفر التكوين والهجر، حيث يبدأ السطر التالي قبل أن يكتمل السطر الذي قبله: «أراكِ وفمكِ الحرّ، بعيدة/ يمرّ دهرٌ عميقٌ ثم أرفع فمكِ/ وتمرّ هنيهةٌ/ مقيّدٌ في صرّة لا أزيح الباب عن قلبي/ شفتايَ شفة/ أيها الموطن الزّفر، إنك معها/ أمرّ قبل جرعها/ أتناول الحبر لأعميك/ مصطفى كي أسبح فيّ وحدي/ دهر أبوابك لدي/ يا رجلكِ ترتع في نظراتي النواحة، رجلك عند رجلي كاحتضان/ يا رأسكِ (متى؟) على رأسي/ يا هربي يُردُّ إليّ، ينام عليّ/ أرقبكِ، والضجرُ عارياً».
سيتوقف هذا القطع والاقتضاب والحذف والتلعثم في «ماضي الأيام الآتية» (1965) و«ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة» (1970)، ولكن المذاقات التي حملها «لن» ستظل تنبعث من جملته التي بات يُسمح لها بالاسترسال وإكمال المعنى، ولكن لا يُسمح لها بأن تنجو من حيرتها وترددها وعصبها الداخلي. هكذا، رحنا نقرأ صوراً مثل: «أنا شعوبٌ من العشاق»، و«جميلة كمعصية»، و«تجلسين على حافة السرير، بالكِ في الريح وقدماكِ في العاصفة»، و«كانت لي أيام ولم يكن لي عمر»، وهكذا، راح بعض الغناء والإنشاد الخفيف يظهر هنا وهناك، وراح الشاعر يدعونا إلى الباحة الخلفية للغته ومعجمه لكي يُرينا هشاشته ورقته ولطفه بعدما أوهمنا مروره العاصف بضراوته وجبروته وقوته، ولذلك كتب في «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» (1975)«أنا هو الشيطان أقدّم نفسي/ غلبتني الرِّقة». نعم غلبت الرقة صاحب اللغة الشرسة والعارية من ماضيها، وراح في أواخر أيامه يمتدح تجارب إيقاعية وتفعيلية، ويستحسن ما فيها من شعر صافٍ وإن كان منجزاً بما ازدراه ورفضه طوال حياته. تصالح صاحب «الوليمة» مع الزمن ومع العمر ومع المرض، وكانت له إطلالات فلسفية على فكرة الموت، وتأملات آسية في فكرة الغياب. تأملات ظل يخلطها مع مقاطع شديدة النثرية ولكنها أشعر من الشعر. أنسي الحاج في النهاية كان لاعباً مدهشاً ومجرّباً كبيراً، وكانت قوة نصوصه متأتية من طزاجتها وتوهجها وقدرتها على نقل عدواها بطلاقة إلى القارئ، ولعل «خواتم» التي دأب على كتابتها كل سبت في «الأخبار» منذ صدورها، وقبل ذلك في مجلة «الناقد» كانت تأويلاتٍ واضحة وصافية لتلك الروح الصاخبة والفظّة التي بدأ بها، حيث كانت الكتابة، كما لدى مجايليه من الرواد الآخرين، محكومة بمهمات جليلة على جبهة التجريب والتجديد، وكان الصفاء الشعري مؤجلاً إلى المستقبل. في «خواتم»، فتح أنسي أرشيف خياله للقارئ، وكانت تأملاته وخلاصاته الشخصية أشبه بكنوز متواصلة يعثر عليها أثناء الكتابة ويُريها للآخرين في اللحظة ذاتها، والغريب والمدهش، أن تلك الكتابة المنتظمة أسبوعياً لم تصنع له قالباً مملاً أو تكراراً مضجراً، بل كان قادراً على تحويل أي فكرة صغيرة وعابرة إلى خلاصة ثاقبة ومبهرة. لم يكن اصطياد الشعر واستعاراته مقصوداً دوماً في «خواتم»، بل كانت فيها عصارة العيش والحب والشغف والقراءة والتنفس والتأمل وصداقة الكلمات. بعضنا كان ينتظر «خواتم» لتصنع نهاره ومزاجه، وبعضنا كان يقرأها ليظل على اتصال مع الكلمة الحية والحرة والنزقة والمتطيرة والفائرة.
كان أنسي الحاج يشبه لبنان، ويشبه صورة لبنان كجغرافيا للتجدد واللهو والخصوبة والأسطورة. نتكلم هنا عن معجم لبناني وحساسية لبنانية موجودة في الطبيعة والشعر والصحافة والغناء والمزاج. نتكلم عن مختبر الحداثة والتنوير والعصر الذهبي لبيروت. أنسي الحاج هو ابن تلك الصورة، وأحد صانعيها الكبار. وبرحيله اليوم، تخسر المدينة جزءاً من الاحتياطي الاستراتيجي للخيال والحداثة والتحرر.

يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza