نقلت مجزرة الاثنين الماضي السودان إلى مرحلة جديدة أنهت مسار المفاوضات القائمة تحت ضغط الشارع، ليصبح العصيان المدني ورقة الضغط الأخيرة، في حين يسعى المجلس العسكري إلى امتصاص بيانات التنديد الدولية، بالدعوة إلى صفحة جديدة، يبدو أنه ــــ إن فتحت ــــ سيكون هو الطرف الأقوى فيها، في ظلّ الانقسام الدولي، وخسارة الحراك أقوى أوراقه.لا يزال المجلس العسكري يحاول التملص من مجزرة فضّ الاعتصام بالقوة الاثنين الماضي، وسط تنديد دولي بالهجمات التي راح ضحيتها أكثر من مئة قتيل، متراجعاً عن إعلانه وقف التفاوض مع قوى «الحرية والتغيير»، وتشكيل حكومة انتقالية لتنظيم انتخابات عامة في غضون 9 أشهر، بإعلان أعقبه بساعات لرئيس المجلس، عبد الفتاح البرهان، أكد فيه استعداده «للتفاوض مع جميع القوى... وفتح صفحة جديدة»، بالتزامن مع دعوة الرياض وأبو ظبي إلى «استئناف الحوار بين القوى السودانية المختلفة»، كما جاء في بيانين نشرتهما وكالتا البلدين. ويعكس الإعلان الأخير للمجلس تخبّطاً لدى العسكر وحلفائه الخارجيين، زاده تعليق الاتحاد الأفريقي عضوية الخرطوم إلى أن تتولى البلادَ سلطة مدنية، وعزّزته «استفاقة» دول غربية ترفع شعارات حقوق الإنسان على المجزرة، لتطالب المجلس باستئناف الحوار وتشكيل حكومة يقودها مدنيون.
وبالتوازي مع مساعي المجلس السياسية لإعادة المشهد إلى ما كان عليه قبل فضّ الاعتصام، يبرر «العسكري» الهجوم بأنه كان يستهدف منطقة كولومبيا المجاورة لمقرّ الاعتصام، لكنه في الوقت نفسه يشيد بـ«إنجازات» قوات «الدعم السريع» المتهمة بالهجوم، والتي يرأسها نائب رئيس المجلس، محمد حمدان دقلو، الملقب بـ«حميدتي»، متهماً «جهات هدفها إشاعة الأكاذيب» حول الميليشيا. وهو اتهام يعززه «حميدتي» نفسه بالقول إن قواته «تتعرض لاستهداف مرتب ومنظم»، زاعماً أن «هناك من ينتحل شخصية أفراد الدعم السريع ويروّع المواطنين»، على رغم أن قواته لا تزال تنتشر بكثافة في شوارع العاصمة، وتقوم بإزالة المتاريس التي وضعها المتظاهرون، وسط إطلاق كثيف للرصاص الحي جواً، ما جعل مناطق عدة في العاصمة تبدو كمدينة أشباح خالية من حركة الناس.
تبريرات «العسكري» لم تنطلِ على قوى «الحرية والتغيير»، التي لا تزال ترفض العودة إلى طاولة المفاوضات، وتشدد على أربعة إجراءات رداً على الجريمة: «العصيان المدني الشامل»، و«إغلاق الطرق الرئيسية والكباري والمنافذ بالمتاريس» (مع عدم البقاء بجانبها أو حراستها لتجنب وقوع قتلى وإصابات)، و«الإضراب السياسي المفتوح في القطاعين العام والخاص»، و«التمسك بالسلمية»، علماً بأن انكشاف وجه «العسكري» واستمراره في ترويع المواطنين لم يغيّرا من نظرة زعيم حزب «الأمة القومي»، الصادق المهدي (سبق أن أبدى استياءه من عدم التنسيق معه في المسيرات وطرح الوثيقة الدستورية)، الذي يرى أن العسكر «قام بدور مفصليّ في الثورة». ومن هذا المنطلق، هو يدعو قادة الحراك إلى مناقشة تسلّم النظام الانتقالي البديل، معتبراً أنه للوصول إلى ديموقراطية توافقية، على الأحزاب الاستعداد لها بإصلاحات في داخلها.
يبدو الرهان على موقف دولي موحد في السودان مستحيلاً، شأنه شأن ليبيا


وفي ظلّ انسداد أفق الحوار، تنشط وساطات محلية وإقليمية لعودة الطرفين إلى المفاوضات، من ضمنها وساطة يعتزم رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، قيادتها خلال زيارة للخرطوم تبدأ اليوم (الجمعة) وتنتهي السبت، وذلك بعد أيام من زيارة عبد الفتاح البرهان لإثيوبيا، في إطار جولة خارجية شملت مصر والسعودية والإمارات، نهاية الشهر الماضي. وبحسب مصدر دبلوماسي في سفارة إثيوبيا في الخرطوم، سيجتمع أحمد مع أعضاء من «العسكري» وآخرين من تحالف «الحرية والتغيير». أيضاً، يأتي تعليق الاتحاد الأفريقي عضوية الخرطوم في هذا الإطار، بحسب ما يوضح مبعوث الاتحاد إلى السودان، بالقول إن القرار «يهدف إلى دفع مختلف الجهات إلى الحوار»، مؤكداً أن «إرادة الاتحاد تشجيع التوصل إلى اتفاق لنقل السلطة» إلى المدنيين، علماً بأن الاتحاد الذي يرأسه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والذي يعتبر نموذجاً للسيطرة العسكرية على السلطة، كان من أوائل المؤيدين للحكم المدني بعد سقوط البشير، لكنه سبق أن أمهل «العسكري» شهرين لتسليم السلطة. ومن بين الوساطات كذلك، تلك التي تَقدَّم بها حزب «المؤتمر الشعبي» (منشق عن حزب «المؤتمر الوطني» الحاكم في عهد البشير)، لكن تحالف «الحرية والتغيير» رفضها مساء أول من أمس. وبعد اجتماع خاص عقده لبحث الوساطة، أعلن عضو «تجمع المهنيين السودانيين»، أحمد ربيع، أنهم لن يقبلوا بأي وساطة قبل التمكن من التواصل مع بعض أعضاء التجمع المفقودين، والكشف عن هوية الجثث المنتشلة من النيل، في ما يبدو شرطاً أولياً لاستئناف المفاوضات.
وفي ظل الأزمة السياسية الداخلية، لا يبدو السودان في قلب صراع المحاور الإقليمي فحسب، بل وسط صراع دولي بدأ يتكشّف في بيانات التنديد من الولايات المتحدة ودول أوروبا والصين وروسيا. ويبرز، من خلال هذه البيانات، أن ثمة قطبين متقابلين: الأول يتماشى مع الدعم السعودي والإماراتي والمصري لـ«العسكري» (وإن كان يسجّل مواقف مناوئة لسياسات الأخير على استحياء)، تعبّر عنه واشنطن وباريس ولندن، والثاني يرفض التدخل الدولي في الشأن السوداني، وإن كان يدعم بدوره المجلس، في اتجاه تعبر عنه موسكو وبكين. هذا الانقسام انعكس أمس في مجلس الأمن، حيث فشلت الأطراف في تبني بيان حول الوضع في السودان، في جلسة مغلقة في نيويورك، بعد رفض الصين وروسيا النص الذي أعدّته الدول الغربية، في حين يقارن المسؤولون الروس ما يحدث في السودان بالأحداث في أوكرانيا، بحسب ما ذكرت صحيفة «كوميرسانت» الروسية، ناقلة عن مصدر دبلوماسي روسي قوله إن القوى الغربية «حرّضت المحتجين والمتظاهرين على عدم المضي لملاقاة العسكريين». وفي السياق نفسه، يعتبر الأستاذ المساعد في قسم التاريخ العام في الجامعة الحكومية الروسية للعلوم الإنسانية، سيرغي سيريوغيتشيف، في حديث إلى الصحيفة عينها، أن العسكر يريدون «تقاسم السلطة مع المعارضة المنظمة، مع عدم السماح للنقابات، أي الجزء الأكثر جماهيرية من حركة المعارضة، بالوصول إلى السلطة»، في إشارة إلى «تجمع المهنيين» المنظم للتظاهرات، متوقعاً حدوث تحول في الموقف في المستقبل القريب: «إما أن يتمكن العسكريون، بالاعتماد على المعارضة المنظمة والسعودية والإمارات ومصر، من إزاحة النقابات وإخراجها من الحياة الاجتماعية السياسية لعدة سنوات، أو تكنس النقابات العسكريين، بمساعدة الغرب، وتعيد بناء جمهورية برلمانية في البلاد».
في ضوء ذلك، يبدو الرهان على موقف دولي موحد في السودان مستحيلاً، شأنه شأن ليبيا. أما بيانات التنديد فلا تبدو فعالة في الضغط على «العسكري» لتسليم السلطة، من سبيل وصف مستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون، أعمال العنف في الخرطوم بأنها «بغيضة»، في وقت تعطي فيه واشنطن حلفاءها الإقليميين الضوء الأخضر في دعم «العسكري». أما داخلياً، فتبدو الأمور أكثر تعقيداً مع خسران الحراك إحدى أقوى أوراقه التي أطاحت البشير: الاعتصام أمام مقارّ الجيش، ما يحرم قوى «الحرية والتغيير» زخم الشارع، الذي كان العنصر الأقوى في المفاوضات في جولاتها الثلاث، في حين لا يبدو أن «العسكري» مستعد بعد للتنازل في النقاط الخلافية الأساسية، وأهمها «المجلس السيادي» الذي يمثل رأس الدولة.