الخرطوم | بعد جولة خارجية في محور السعودية والإمارات ومصر، يسعى «المجلس العسكري» لمواجهة الإضراب السياسي العام بإسقاط صراع المحاور في الداخل السوداني للإجهاز على الحراك الشعبي، باعتباره مخترقاً من قبل من وصفهم تارة بـ«إسلاميين فاسدين» أو «متخابرين مع دول أخرى» تارة أخرى، في محاولة لإضفاة «شرعية» إقليمية على الوصاية الخارجية الواضحة في قراراته السياسية.في اليوم الأول للإضراب العام القابل للتصعيد إلى «عصيان مدني مفتوح»، كما حذر تحالف قوى «إعلان الحرية والتغيير»، يمضي «المجلس العسكري الانتقالي» في ثلاثة اتجاهات لمواجهته: الأول، توجيه الصراع مع قادة الحراك الشعبي إلى الخارج، باعتبارهم تحالفاً سياسياً ذو أجندة خارجية ويهدف للوصول إلى السلطة. وثانياً، استخدام القوة وابتزاز المضربين عن العمل بلقمة العيش وفصلهم من وظائفهم. وثالثاً، استغلال تباين المواقف بين حزب «الأمة القومي» بزعامة الصادق المهدي، الذي سبق أن رفض الإضراب، من جهة، وباقي قوى تحالف «إعلان الحرية والتغيير» من جهة ثانية.
وينعكس مأزق «العسكري» في نجاح الإضراب العام الذي شمل قطاعات واسعة، في تأكيد المشاركة الواسعة على «وقوف الجماهير خلف مطالب قوى الحرية والتغيير، المتمثلة بتشكيل مجلس سيادي برئاسة وأغلبية مدنية» كما أوضح القيادي في «تجمع المهنيين السودانيين»، أمجد فريد. وأشار فريد، في حديث إلى «الأخبار»، إلى «مسلك بعض القوات والأجهزة الأمنية، التي اعتدت على موظفين مضربين في بعض المؤسسات»، جازماً بأن «هذه التصرفات لا تستطيع منع الاحتجاجات السلمية التي ستستمر حتى تحقيق المطالب».
وعن نسبة نجاح الإضراب السياسي الشامل، أكد القيادي في «الحزب الشيوعي السوداني»، عضو قوى إعلان «الحرية والتغيير»، صديق يوسف، لـ«الأخبار»، أنها «وصلت في يومها الأول إلى 80 بالمئة»، مشيراً إلى أن «القطاعات المصرفية والصحية، إلى جانب قطاع النقل، نفذت الإضراب بصورة كبيرة». وأضاف يوسف أن «معظم المحال التجارية في الخرطوم أغلقت أبوابها»، لافتاً إلى أن الإضراب وجد تأييداً منقطع النظير من الأسر وربات المنازل، ما يدل على أن مطالب قوى الحرية التي تتمثل في حكم مدني تحظى بتأييد واسع». وأكد يوسف أن «هناك قوى حاولت اعتقال مهندسي كهرباء بسبب إضرابهم عن العمل، لكن آخرين تصدوا لهم وهددوا بقطع الإمداد الكهربائي نهائياً في حال تنفيذ اعتقالات».
يتجه «العسكري» إلى تسييس المرحلة الانتقالية في ضوء صراع المحاور


وفي ظل نجاح الإضراب السياسي العام، تراجع حزب «الأمة القومي» ــ الذي سبق أن رفض الإضراب ــ عن موقفه، وأكد حرصه على وحدة قوى «الحرية والتغيير». واعتبر، في بيان، أن الإضراب حق مشروع في المواثيق الدولية «ولا يحق للمجلس العسكري تهديد المضربين بأية صورة». وفي حديث إلى «الأخبار»، أوضح نائب رئيس الحزب، اللواء معاش فضل الله برمه ناصر، أن الحزب يقف «مع الإضراب كحق سياسي عام»، بيد أنه قال: «نحن ضد التصعيد والتصعيد المضاد»، معتبراً أن «الإضراب السياسي والعصيان المدني آخر ذخيرة يمكن اللجوء إليها». وهنا، رأى ناصر أنه «كان يفترض تشكيل مجلس قيادي لقوى الحرية والتغيير يقوم بمهمة التخطيط واتخاذ القرارات المرتبطة بالخطوات التصعيدية، لكن هذا لم يحصل بسبب اختلافات داخل القوى في وجهات النظر». ويقطع موقف «الأمة القومي»، الطريق أمام العسكر لاختراق قوى «الحرية والتغيير»، التي يؤكد المسؤولون فيها ضرورة التماسك حتى تحقيق مطالب الحراك الشعبي.
وفي ظل فشل «العسكري» داخلياً في مواجهة الإضراب، يتجه إلى تسييس المرحلة الانتقالية في ضوء صراع المحاور، وهو ما بدا جلياً في حديث نائب رئيس المجلس، محمد حمدان دقلو، الملقب بـ«حميدتي»، مساء أمس، عن أن جهات في الحراك الشعبي «يتخابرون مع دول أخرى»، مشيراً إلى أن هناك «دولاً تتربص بنا لنصبح مثل سوريا وليبيا»، رغم أن المجلس لا يخفي علاقاته الخارجية منذ انقلابه على الفريق عوض بن عوف، الذي قاد الانقلاب على البشير في الـ11 من نيسان/ أبريل الماضي، ولا سيما مع محور السعودية والإمارات ومصر، حيث انطلق رجلا المجلس، رئيسه عبد الفتاح البرهان ونائبه دقلو، اللذان عملا معاً في اليمن للإشراف على القوات السودانية، في جولة هذا الأسبوع، تستكمل في إفريقيا.
ويعيد «المجلس العسكري» الحوار بشأن المرحلة الانتقالية إلى مربع الصفر، في تشديده على «ضرورة إشراك الجميع» في المفاوضات، كما جدد دقلو ذلك أمس وأول من أمس، ما يعيد الحوار إلى مرحلة الجولة الأولى، التي انتهت بفشل محاولة توسيع دائرة المفاوضات لتشمل أحزاب وقوى سياسية كانت في السلطة في عهد الرئيس المخلوع عمر البشير. وفي هذا الإطار، أكد القيادي في «تجمع المهنيين» فريد، لـ«الأخبار»، أنهم مستعدون «لإكمال العملية السياسية إذا تراجع المجلس العسكري عن مواقفه. لكن لا نرضخ إلى سقف أقل من سقف الجماهير»، ما يعني الاعتراف بـ«قوى الحرية والتغيير» ممثلاً وحيداً للحراك الشعبي.
وفي ظل تلميحات بإجراء انتخابات مبكرة، يُمهد «المجلس العسكري» لقرار تشكيل سلطة مدنية منفرداً، كما لمح «حميدتي» أمس قائلاً: «لو وجدنا شخصاً ذا ثقة سنسلمه السلطة فوراً»، في حين يزعم أن «إسلاميين فاسدين من النظام السابق، انضموا إلى الثورة لتنظيف ملفاتهم»، علماً بأن الإسلاميين كانوا قد خرجوا في تظاهرة، الأسبوع الماضي، رفضاً للمفاوضات الثنائية ومخرجاتها، باعتبارها «إقصائية»، لكونها بين المجلس وقادة الحراك فقط. ويؤكد اتجاه المجلس هذا أنه يقبل بتشكيل حكومة بأغلبية مدنية، لكنه يسعى إلى أن يحتفظ لنفسه تسميه رئيس الحكومة، بالإضافة إلى أغلبية «المجلس السيادي» ورئاسته، ليبقى ممثلاً لرأس الدولة، للحفاظ على وصاية خارجية وتمرير قرارات تحفظ مصالح الخارج، على غرار قرار استمرار المشاركة في حرب اليمن، رغم رفض جميع قوى تحالف «الحرية والتغيير» ذلك منذ عام 2015، وتجديدهم موقفهم أخيراً مع إعلان القرار، أو قبول تقديمات مالية لا بد مشروطة من قبل السعودية والإمارات (ثلاثة مليارات)، أو اتخاذ مواقف سياسية من شأنها اصطفاف السودان في محور الرياض ضد إيران في ضوء التصعيد الأميركي الأخير، كتلك التي أطلقها بالتزامن مع لقاء «حميدتي» بولي العهد محمد بن سلمان، الخميس الماضي.