تنطلق الليلة الدورة 21 من «مهرجان البستان» اللبناني الشتوي بعنوان «الموسيقى والطبيعة». عنوان موفّق، يجمع كلمتين مقدَّستين، ليس بالمعنى الديني، بل أبعد منه بكثير، لكنه أبعد ما يكون عن أخلاق عصرنا ونوايا أنظمتنا، في لبنان والعالمين العربي والغربي.
أضعف الإيمان أن لا تكون هناك «عملة» عندما نقول «موسيقى» أو «طبيعة» (فكيف بالاثنين معاً؟). لكن وقاحتنا تتيح لنا الانتقال بخفة متناهية من التغنّي بهذه المقدّسات إلى تفقّد أخبار أسهمنا في البورصة وإلقاء نظرة خاطفة على حساباتنا في البنوك. لا بل، في هذه المرحلة الاستثنائية من النجاح الذي يتمتع به مجتمع الاستهلاك وتفشّي مبدأ الملكية، نحن قادرون على تحويل الموسيقى والطبيعة إلى سلع: فيها الرخيص والثمين. فيها الأصلي والمغشوش والفاسد. فيها المخصَّص لهذه الطبقة أو تلك. وقد نحرم منها السوق، لفترة، ثم نعيد طرحها في الوقت المناسب. إذاً، للوهلة الأولى، يبدو عنوان الدورة الحالية لـ«البستان» صائباً. لكن، بعد قليلٍ من التأمّل، يبدأ تأثيره السلبي بالظهور ليبلغ حدّ الاستفزاز.
بعد سنوات من المثابرة، ينطلق «مهرجان البستان» مراعياً عنوان دورته لناحية بعض الأعمال التي أدرجَت في برامج الأمسيات (راجع المقالة أدناه). وكما هو معروف، هذا المهرجان السنوي مخصّص بالدرجة الأولى للموسيقى الكلاسيكية الغربية، وهي نمط يشمل أشكالاً موسيقية وأشكال تعبير فنية مختلفة. هناك الأمسيات الأداء المنفرد الذي يكون للبيانو عموماً. وهناك موسيقى الحجرة والموسيقى الأوركسترالية والأوبرالية والدينية (راجع أقصى يسار الصفحة) وعروض الباليه. لكن للمهرجان اللبناني لفتة محدودة وثابتة نحو الجاز والموسيقى المحلّية (أو العربية عموماً). وهذه السنة لم يحقق أي تقدّم عن مستوى الدورات السابقة المتدنّي أصلاً (راجع الكادر).
بعد نظرة سريعة على البرنامج، نلاحظ الآتي: أولاً، معظم الأمسيات جذّابة، هنا بفضل البرنامج أو بعض الأعمال الواردة فيه، وهناك بفضل اسم هذا الموسيقي أو ذاك المؤلف. ثانياً، معظم الأعمال التي سيتم أداؤها من كلاسيكيات الريبرتوار، مع حضور قوي لإبداعات الثلاثي: تشايكوفسكي، دفوجاك وبيتهوفن. ثالثاً، الأسماء الواعدة حاضرة والنجوم العالميون أيضاً. وهذه من ميزات «البستان». رابعاً، لا يوجد أي «قنبلة» لناحية الأسماء الكبيرة، والأقرب إلى هذه الفئة هو التركي فازيل ساي (الذي سبق أن زار لبنان/ «بيت الدين» 2004). أخيراً، تغيب أعمال عبقريٍّ يتألف اسمه من توالي النوتات «سي بيمول» و«لا» و«دو» و«سي». أي، بالكتابة الموسيقية الألمانية:
B وA وC وH!
من جهة ثانية، تتميَّز الدورة الحالية بحدثين، أحدهما كبير والثاني عظيم، وكلاهما من الفئة نفسها ويحملان الرقم نفسه (المشؤوم في هذا المجال). في ليلة الافتتاح (ثم في إعادتها بعد يومين)، يشهد «البستان» أداء السمفونية رقم 9 للمؤلف التشيكي دفورجاك. وفي 19 آذار (مارس) المقبل، نسمع إحدى قمم الإبداع البشري في الموسيقى، أي السمفونية رقم 9 لبيتهوفن (راجع المقالة في الصفحة المقابلة).
أما نحن، فما زلنا نعتقد بأن أكثر من يستحق الموسيقى قد لا يكون قادراً على «شرائها». وبالتالي، سنختار من معظم أمسيات «البستان» أبرز ما ستشهده ونقدّمه لكم مجاناً، وبالتزامن معها من خلال مكتبتنا الموسيقية على موقع «الأخبار».

«مهرجان البستان»: 20:30 بدءاً من الليلة حتى 23 آذار (مارس) المقبل ـــ «فندق البستان» (بيت مري) ــ للاستعلام: 03/752000 ــ 04/972980