تشنّ الولايات المتحدة، في ظلّ إدارة ترامب، حرباً على «المارقين» من أنظمة اشتراكية في الأميركتين الوسطى والجنوبية، من بوابة فنزويلا. بالنسبة إلى هذه الإدارة، تشكل كوبا حجر الزاوية في العقيدة العدائية التي يجددها الصقور من حول الرئيس الأميركي. لكن رغم شعارات الزمن الغابر التي يعيد هؤلاء إحياءها بوجه «الاشتراكية» وحصون اليسار اللاتيني، لا تخفى دوافع ترامب الانتخابية في هذه المعركة.يشتد غضب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من كوبا كلما تعثرت مؤامرته لإسقاط فنزويلا. فبعد فشل محاولة الانقلاب التي جهزها ضد الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، ملأ صراخ ترامب موقع «تويتر»، مهدداً بفرض «حصار كامل وشامل مع عقوبات عالية المستوى على كوبا إذا لم تتوقف عن دعمها لفنزويلا».
وإذ لم تستطع واشنطن إسقاط مادورو بالاغتيال الجسدي أو بالانقلاب العسكري، حاولت إسقاطه بالدعاية والحرب النفسية، حيث أعلن وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، أن «مادورو كان يريد مغادرة البلاد إلى كوبا». لكن الرئيس الفنزويلي خرج بنفسه ليحبط المساعي الأميركية ويعلن فشل الانقلاب، قائلاً لبومبيو: «كفى تفاهةً سنيور... أرجوك، هذه مزحة حقاً». يعرف الأميركيون مدى الترابط بين فنزويلا وكوبا، ويعيد وعيد مستشار الأمن القومي جون بولتون، في 17 نيسان/ أبريل الماضي، لكوبا ونيكاراغوا وفنزويلا، الصورة إلى مشهد خليج الخنازير إبان الحرب الباردة. أعلن بولتون التدابير العقابية الجديدة ضد هذه الدول، مهاجماً الأنظمة الاشتراكية، ومن خلفه يظهر علم المجموعة التي درّبتها وكالة الاستخبارات الأميركية «سي آي إي» لاحتلال كوبا. لم تكن الصورة عابرة، وبولتون يشجب «سياسات عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما»، واعداً بـ«إنهاء بريق الاشتراكية والشيوعية» التي، منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض عام 2016، وضعها هدفاً له. الخطوة الجديدة لإدارة ترامب لم تكن غريبة، إذ تصبّ في سياق المواجهة التي قررتها ضدّ من تبقى من أنظمة تعادي واشنطن في منطقة دول الكاريبي، بعدما استعادت الأولى المبادرة في كثيرٍ من الدول اللاتينية التي خرجت عن طوعها سابقاً مثل البرازيل والأرجنتين.
تبدو الأجواء المحمومة نتيجة طبيعية لِما تنتجه «العقول الحامية» في إدارة ترامب من تصورات لمستقبل أميركا اللاتينية. يرسم بولتون في مخيلته سيناريوات حول إسقاط عواصم بشكل متتالٍ في المنطقة، وهو المعروف بتفضيله أساليب القوة واحتقاره المؤسسات الدولية والقانون الدولي والأصول التي ترعى عادةً العلاقات بين الدول، وفق توصيف المحللة في معهد «ستراتفور» ريفا جوجون. وكتعبير أكثر فظاظة عن هذا التوجه الأميركي المتجدد، تحدث بولتون بفخر عن «عقيدة مونرو» الباقية «على قيد الحياة وبصحة جيدة»... هذه العقيدة التي ابتدعها الرئيس الأميركي جيمس مونرو عام 1823، والتي حددت نصف الكرة الأرضية الغربية كـ«حديقة خلفية» لواشنطن، والتي لطالما استندت إليها الإدارات الأميركية لتبرير الاحتلال العسكري للدول اللاتينية. الأمر الذي يؤكد أن إدارة ترامب تمهد الطريق للتدخل في المنطقة بصورةٍ أكثر خشونة. مؤشرٌ عززه تهديد ترامب بفرض حصار شامل على كوبا، ومن قبله إعلان بولتون أن «كوبا ستكون التالية»، مستخدماً عبارة مشحونة بأعلى درجات التوتر خلال الحرب الباردة: «يمكننا إنهاء ما بدأنا به على تلك الشواطئ، في تلك الأيام الشهيرة قبل 58 عاماً».
يتحسّب ترامب لاستمرار بيرني ساندرز ذي الأفكار اليسارية في المنافسة


في مقال له في «كاونتر كارنتس» يعرّف الصحافي الأميركي من أصل روسي، أندريه فلتشيك، مبدأ مونرو بأنه «وثيقة تجعل العالم الغربي بأكمله فناءً خلفياً للولايات المتحدة، وتبرر فلسفة الاستعمار الجديد وأكثرية الانقلابات البربرية التي تدبّرها واشنطن، كما أنها تغطي التدخلات في منطقة الكاريبي ووسط القارة الأميركية». سمحت هذه العقيدة المتجددة للولايات المتّحدة، طوال عقود، بتأسيس بعض من أشد الحكومات استبداداً في أميركا اللاتينية بهدف إبقاء المنطقة تحت طواعيتها. فتدخلت بعصاها الغليظة في كوبا أواخر القرن التاسع عشر مثلاً، عندما خرجت الأخيرة من طوق الاحتلال الإسباني الذي دام أربعة قرون، ليكون ثمن «مساعدتها» وصاية استمرت ستة عقود. ومثل ذلك تقريباً فعلت في جمهورية الدومينيكان عام 1905، ثم نيكاراغوا عام 1912، وهاييتي عام 1915، وتشيلي لاحقاً. لكن هافانا بقيت الهدف الأول بالنسبة إلى واشنطن، ولهذا حاولت الأخيرة على مدى 60 عاماً تدمير الثورة الكوبية، ولا تزال تحاول حتى اليوم، مستخدمة خيارات عدة. من بين هذه الخيارات، التدخل المباشر أو غير المباشر (عبر دول مجاورة)، العقوبات الاقتصادية والمالية المشددة لتأليب الرأي العام والتظاهر ضد الأنظمة، والانقلابات الداخلية عبر رجالات من داخل الدولة أو الجيش. وتأتي في السياق نفسه محاولات الولايات المتحدة إطاحة نظام مادورو، ودعمها لانقلاب خوان غوايدو، من أجل أن يُستثمر ذلك في إسقاط كوبا، ثم نيكاراغوا وبوليفيا لاحقاً.
ولذلك، يرى ترامب في تشديد العقوبات على هافانا أملاً جديداً بالنجاح. فالرئيس الأميركي، وقبل انتخابه رئيساً، يشدد على ضرورة الحفاظ على الحصار الاقتصادي. وباشر فعلاً بتشديد تلك العقوبات منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، فيما تبدو كاراكاس محطة في الطريق نحو إسقاط هافانا. ويعتبر الأميركيون أن سقوط فنزويلا سيكون بداية لسقوط حلفائها، هذا على الأقل ما يؤكده أحد أبرز وجوه إدارة ترامب في الشؤون اللاتينية، عضو مجلس الشيوخ ماركو روبيو (المتحدّر من أصل كوبي)، الذي يردد: «غزو فنزويلا مقدمة لإسقاط كوبا» والذي فور بدء عملية الانقلاب الفاشل في كاراكاس قبل يومين، ظهر منتشياً بانتصارٍ لم يتحقق، وقال عبر «تويتر» لغوايدو: «مصير الوطن وشعبه بات بين يديك، لقد حانت لحظة الحرية لإنقاذ بلدك ونيل حريتك».
كذلك، يساعد وجود ترامب نفسه في البيت الأبيض، هذه العقول الحامية ـــ التي اختارها كصفٍّ أول في إدارته ـــ على الإبداع في الأفكار التدخّلية. وكونه رئيساً يعتبر «الاشتراكية» عدوه اللدود، وأقدم على إلغاء قانون الرعاية الصحية ومنع الهجرة وغيرها من السياسات، فإن ترامب ومع اقتراب نهاية ولايته عام 2020، وتحسّبه لاستمرار بيرني ساندرز، ذي الأفكار اليسارية، في المنافسة، بدأ العمل على برنامجه الانتخابي من محاربة الاشتراكية في الجنوب الأميركي، ووقع اختياره على فلوريدا تحديداً، التي تشكل تجمعاً لآلاف المهاجرين الكوبيين والنيكاراغويين والفنزويليين المعادين لأنظمة دولهم. ليس صدفة أن يستخدم ترامب، خلال خطاب الاتحاد في شباط/ فبراير الماضي، مصطلح «اشتراكية» 40 مرة، وأن يتهم معارضيه بالدعوة إلى تطبيقها في الولايات المتحدة.

(أ ف ب )

ويتضح أن الخلفية الأيديولوجية المعادية لأميركا اللاتينية وخياراتها، إلى جانب المصلحة السياسية المستجدة، هي ما دفعت ترامب إلى التراجع عن سياسة سلفه تجاه كوبا، وأعادت إحياء السياسة الأميركية خلال الحرب الباردة.
إلا أن التناقض «الترامبي» ظهر سريعاً في شباط/ فبراير الماضي، حين قدّم «فييتنام الشيوعية» كنموذج اقتصادي يمكن لكوريا الشمالية أن تتخذه، وذلك لدى لقائه الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون في هانوي. وهو أمر كشف النقاب عن الجانب الأيديولوجي لمعركة ترامب الانتخابية المقبلة. ففييتنام، ورغم أنها حررت اقتصادها منذ ثلاثة عقود، إلا أن اسمها لا يزال يقترن بالاشتراكية حتى اليوم، كما أن الحكم فيها لا يزال في يد «الحزب الشيوعي». من جانبه، يرى رئيس مركز حوار الدول الأميركية، مايكل شيفتر، في حوارٍ مع «EFE»، أن «التذرع بالاشتراكية يخدم ترامب، وخصوصاً مع بدء التركيز على حملته الانتخابية 2020، ورسالته هي أن الحزب الديموقراطي قد تحرك يساراً نحو الاشتراكية، وإذا وصلوا إلى البيت الأبيض فستتحول واشنطن إلى كاراكاس».
سياسة ترامب وفريقه في شأن أميركا اللاتينية اصطدمت بعقباتٍ كثيرة، منها التفاف قسم كبير من الشعوب حول قياداتها، ودخول روسيا والصين على خط التوازنات اللاتينية. لكن الإدارة الأميركية لا يبدو أنها ستستسلم بسهولة. صحيفة «واشنطن بوست» ذهبت إلى اتهام إدارة ترامب تحديداً بأنها شاركت في تمتين العلاقات الروسية المتزايدة مع كوبا، ورغم كل ذلك يتمسك ترامب برؤيته للمنطقة، التي يريد من خلالها منع أي طرف آخر من الدخول إلى أميركا اللاتينية أو بسط نفوذه. لكن الوقائع تشير إلى أن مهمته لن تكون سهلةً، فالعمل على هزيمة الاشتراكية في هذه البلاد وإسقاط الأنظمة يحتاج إلى وقت طويل، ولا سيما أن السيطرة على كاراكاس فشلت حتى الآن، ما يعني أن المخطط تأخر تنفيذه، وأن ترامب يخسر المزيد من الوقت الثمين مع اقتراب نهاية ولايته وعدم وضوح المنافسة التي سوف يواجهها خلال الانتخابات المقبلة.