أدهش الإخراج المشهدي للتظاهرات في الجزائر العديد من المراقبين. وإذا كان من الصحيح أن دوره قد تزايد في الحقل السياسي نتيجة التأثير المزدوج لتكنولوجيا المعلومات الجديدة، ولمساهمة المنظمات غير الحكومية في توحيد أشكال الاحتجاج السياسي المعاصرة عبر أنماط مختلفة من الإخراج المشهدي الواسعة النطاق ومن الحملات الإعلانية، فإن أحمد بن سعدة، مؤلف «أرابيسك ـــ تحقيق عن دور الولايات المتحدة في الانتفاضات العربية»، يرى أنه في حالة الاحتجاجات في الجزائر، يُلجأ حالياً إلى «دليل عمل نظري ومنهجي ومنظم». وبحسب بن سعدة، فقد أجرى المركز الصربي «كانفاس» وخبراء في التواصل الاجتماعي دورات تدريبية في ما يسمى «الرابطة العربية للإنترنت».يرى بن سعدة أن «تدريب المنظمين، والتطبيق العملي لمبادئ النضال اللاعنفي التي يروّج لها كانفاس، قد غيّرا المعطيات تماماً. التآخي مع العدو، واستخدام الحملات الإعلامية الإيجابية والسلبية، واللجوء إلى السخرية بوصفها وسيلة احتجاجية، وإلى الفضاء الافتراضي لتعبئة المتظاهرين وتنظيمهم وتوجيههم أيديولوجياً، هي بعض الأمثلة على أنماط العمل المشتركة بين جميع الثورات الملونة في دول الكتلة الاشتراكية السابقة، وتلك الربيعية في البلدان العربية». أُسّس مركز «كانفاس» كوريث لحركة «أوتبور» الصربية، السبّاقة إلى اعتماد النضال اللاعنفي الذي أطلق الانتفاضة على حكومة ميلوزيفيتش وأطاحها عام 2000. واستناداً إلى هذا النجاح، قام قادة الحركة، تحديداً سجردا بوبوفيتش وإيفان ماروفيتش، بتأسيس كانفاس «كمؤسسة لتصدير الديمقراطية من طريق تدريب جميع الثوريين عبر العالم». وهو يذكّر بأن المركز مموَّل من عدة جهات، بينها «فريدوم هاوس» وجورج سوروس شخصياً، و«المعهد الجمهوري الدولي» الذي رأسه جون ماكين، عضو مجلس الشيوخ الأميركي الأسبق والمرشح للانتخابات الرئاسية عام 2008. وباعتقاد الخبير الجزائري، فإن كل عملية تغيير نظام تسير بالتوازي مع «تمويل لمنظمات غير حكومية في البلد المعني بالعملية، من قِبَل مؤسسات تصدير الديمقراطية نفسها. وعلى الرغم من أن هذا التمويل غير معلن في الكثير من الحالات، فإن ذلك الذي تقدمه الوقفية الوطنية للديمقراطية، الواجهة العلنية للمخابرات المركزية، يشذّ عن القاعدة».
من الخطأ الاعتقاد أن الملايين التي تدفقت إلى الشوارع موجهة من الخارج


المنظمات غير الحكومية المحلية تتقدم دائماً الصفوف خلال الاحتجاجات في البلدان المستهدفة، وهذا ما حصل في الجزائر، وفقاً للخبير، عام 2011: «نظّمت التنسيقية الوطنية للتغيير والديمقراطية، التي تضمّ أحزاباً سياسية ومنظمات غير حكومية ونقابات الاحتجاجات ضد الحكومة. من بين الموقّعين للوثيقة الأولى للتنسيقية، التي انقسمت فيما بعد، نجد الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، النقابة الوطنية المستقلة لموظفي الإدارات العامة، جمعية المفقودين وتجمع العمل الشبابي. جميع هذه المنظمات غير الحكومية تلقت تمويلاً من الوقفية الوطنية للديمقراطية أو من الهيئات الأربع المرتبطة بها». وهو يلاحظ أيضاً، على هامش الانتفاضة الشعبية هذا العام، تأسيس «تنسيقية المجتمع المدني الجزائري من أجل مخرج سلمي للأزمة»، يضمّ إلى المنظمات المذكورة سابقاً منظمتَي «جزائرنا» و«صمود». جميع هذه المنظمات لديها، أو كانت لديها، صلات بـ«الوقفية الوطنية للديمقراطية» التي قدمت إلى بعضها تمويلاً عام 2018، بحسب تقريرها الأخير المنشور على موقعها. هي موّلت «الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان» بدءاً من عام 2010 ولعدة سنوات، عندما كان مصطفى بوشاشي، أحد الرموز الشعبية للحراك الراهن، على رأسها. ويتساءل بن سعدة عن صمت بوشاشي في مواجهة اتهامات حسين زهوان، الذي سبقه في رئاسة الرابطة، عن علاقاته مع الخارجية الأميركية: «لماذا لا يجيب بوشاشي عن هذه الأسئلة؟».
رمز آخر للاحتجاجات متهم ببناء علاقات غامضة مع إسلاميي «الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، الذين سبّبوا «العشرية السوداء»، وهو كريم طبو، الذي وقّع وثيقة «التحالف الوطني للتغيير»، إلى جانب قيادات بارزة من الجبهة كأنور هدام ومراد دهينة. وفي سياق ارتفاع سقف المطالب الشعبية، يعارض مصطفى بوشاشي وكريم طبو وسعيد سعدي، الرئيس السابق لـ«التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية» وعضو تنسيقية 2011، الخيار الدستوري الذي طرحه الجيش للخروج من الأزمة. هذا الموقف المتشدد من قِبَلهم يفسّر الحذر المتزايد منهم بين قطاع عريض من الشعب بنظر بن سعدة: «الصدام مع المؤسسة العسكرية خطير بالنسبة إلى الجزائر، وتحريض الجماهير في هذا الاتجاه موقف غير مسؤول. في هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ البلاد، التحلي بالحكمة هو المطلوب. تحليل الثورات غير العنيفة التي جرت في البلدان الأخرى يقود إلى الاستنتاج أن المرحلة التي تلي سقوط السلطة أكثر حساسية من سابقتها. خلالها تنجح الانتفاضات أو تفشل. عادة ما تكون نتائج الغطرسة والعناد شديدة السلبية في مثل هذه المرحلة».
وعلى الرغم من أن سياق الانفجار الشعبي، في بلد مغلق نسبياً كالجزائر حافظ على توجهات استقلالية، سيفتح الباب بالضرورة للتدخلات الخارجية، فمن الخطأ الاعتقاد أن الملايين التي تدفقت إلى الشوارع موجهة من الخارج. هذه الاحتجاجات تعبير عن غضب الجزائريين العارم الناجم من المشكلات الفعلية التي تعتري حياتهم اليومية. الميدان كان جاهزاً للاحتراق قبل الشرارة التي أشعلت الحريق. لكن مرحلة تنظيم الانتفاضة التي تتبع هي التي تشهد مساعي خبراء تصدير الديمقراطية لتطبيق تكتيكاتهم.