لطالما عُدّ القرب من العاصمة بيروت أو البعد عنها، مقياساً لمدى الاهتمام بالمناطق في لبنان وتوفير الخدمات فيها. تلك البعيدة تعرف بالمناطق النائية، المحرومة، والخارجة عن رعاية الدولة... غير أن منطقة المدوّر بأحيائها العديدة، وأشهرها الكرنتينا، تكسر القاعدة. فالمنطقة الأكثر التصاقاً بالعاصمة تعدّ حتماً من صنف المناطق المحرومة والخارجة عن رعاية الدولة وبلديّة بيروت.في المدوّر، والكرنتينا ضمناً، لا يمكن الزائر أن يخلص إلى استنتاج محدّد، بشأن ما إذا كان في منطقة سكنيّة أو صناعيّة أو عسكريّة أو تجاريّة، أو منطقة لجوء ومعامل نفايات. هي، تقريباً، كل ذلك. يخرج وفي رأسه خلطة انطباعات غريبة ترافقه إلى حدود الـ«داون تاون»، ليكتشف، على مشارف بيروت «المعروفة»، أنّه خرج للتوّ من منطقة... منكوبة. فالمدوّر تابعة «بالاسم» لمدينة بيروت وبلديّتها، أما على أرض الواقع فلا شيء يوحي بذلك. آثار الحرب، الثكنات العسكرية، البيوت المتصدّعة والهشّة، برك المياه في طرقات غير مؤهّلة... كلّ شيء على حاله المزرية كما كان قبل إعادة إعمار بيروت. يتردّد بين الأهالي أن مخططات «إعادة الإعمار» ستتوسّع، وكذلك المرفأ، وعليهم المغادرة. هذه «مواويل» سنويّة يسمع بها السكان، وتبعث فيهم الخوف من المشاريع التي تُعَدّ لمنطقتهم و«تربّط» أيديهم عن الاستثمار فيها. مفاوضات البلديّة على قطعة أرض كبيرة يشغلها فوج المدفعية في الجيش اللبناني، ومحاولتها استرداد أراضي لها مستثمرة من عائلات كبرى في بيروت... توضع في إطار بناء مجمّع بلدي موحّد في الكرنتينا، أو بهدف إنشاء محرقة النفايات الموعودة. بناء المجلس البلدي، وفق السكان، «موّال نسمعه منذ عشر سنوات ليقنعونا بأن المنطقة ستتحسن وسيرتفع سعر الأرض، لكن لم يوضع له حجر أساس حتى الآن». التشكيك في جديّة مشاريع البلدية يُعزى إلى أنها لم تقدّم إلى المنطقة أي مشروع إنمائي سوى حديقة البطريرك بولس المعوشي (بالتعاون مع الجامعة اليسوعية). أما المشروع «الأكيد»، بالنسبة إلى السكّان، فهو محرقة النفايات التي تسوّق لها البلدية. بحسب شهود عيان، العمل على المحرقة «بدأ فعلاً. على الحوض تحت. تكفي مراقبة حركة الكميونات ليتبيّن أن بعضها يأتي محملاً بالنفايات للدخول إلى معمل الفرز والبعض الآخر محملاً بالردميات لإنشاء المحرقة. يعملون على السكت». رفض السكان للمحرقة لم تبدّله الفيديوات التي عرضها رئيس بلدية بيروت جمال عيتاني، في إحدى الجلسات مع فعاليات المنطقة، عن محارق تعمل بالقرب من فنادق في عواصم عالمية. «لم نقتنع. في هامبورغ وفيينا وروتردام هناك رقابة وصيانة، أما هنا فستمرّ فترة وجيزة قبل أن تبدأ محرقتهم ببثّ سمومها والسرطان. دولة لا يمكنها صيانة شبكة الطرقات والصرف الصحي كي لا تغمرنا الفيضانات، هل يمكنها صيانة محرقة؟» يسأل أحدهم، مضيفاً: «حتى سماسرة الأراضي باتوا يعلمون أن المحرقة آتية ويفاوضوننا على أسعار منخفضة جداً».
دولة لا يمكنها صيانة شبكة الطرقات والصرف الصحي كي لا تغمرنا الفيضانات هل يمكنها صيانة محرقة؟


المشاريع المؤجّلة تركت المنطقة بلا أي تحسين. وحدهم السكان تبدّلوا. «عائلات الكرنتينا الأساسية هجرتها، بقي منها عدد لا يتجاوز أصابع اليد. لا يزال المِلك لها، لكن معظم السكان الحاليين باتوا من الأغراب، من اللاجئين السوريين والعمال الأجانب»، وفق مختار المدوّر فرنسوا الجلخ. «الأغراب»، بدورهم، تحوّلوا إلى سكان تنقصهم خدمات كثيرة. رغم أن طبيعة الكرنتينا تسمح باستيعاب «الجميع» بكل اختلافاتهم، إلّا أنها غير قادرة على دمج الجميع. كأنها محطة يستقرّ فيها الوافدون والمهجّرون لفترة، ثم يعبرون منها إلى غيرها، يتطوّرون خارجها وهي باقية على حالها. هكذا حدث مع الأرمن الذين سكنوها ضمن مخيّمات في بداية لجوئهم إلى لبنان، ثم انتقل قسم منهم إلى مناطق أخرى بعدما شبّ حريق في المخيّم. وكذلك مع «عرب المسلخ»، كما يُطلق عليهم، الذين هُجّر قسم كبير منهم إلى الناعمة وبشامون والجناح وغيرها. الأكراد أيضاً وجدوا في وقت سابق في المدوّر ملجأً لهم. يقول الجلخ إن «نحو 10 في المئة من أهالي المنطقة الأساسيين يسكنون فيها، من أصل 45 ألف ناخب على لوائح الشطب، أكثريتهم من الأرمن (لهم 9 مخاتير من أصل 12). باقي سكان الكرنتينا نازحون إلى مناطق لبنانية أخرى وإلى الخارج».
المدوّر منطقة شاسعة، إذ إن حدودها تتشكّل «مع الجميزة حيث كانت مدرسة السانت فاميه، وشارع أرمينيا ومار مخايل، مروراً بخط الترامواي القديم ومصلحة السكك الحديد حتى نهر بيروت، وصولاً إلى البحر» بحسب الجلخ. وهي بذلك تتقاسم حدودها مع برج حمود، كما الصيفي والرميل، لكنّها لا تشبههما بشيء. البحر، الذي يفترض أن يكون نافذتها الوحيدة لم يعد كذلك. «راح الشطّ». هذا ما يقوله السكان وهم يتذكّرون «الشاطئ الأجمل والأنظف» في بيروت قبل أن تنتهكه الردميات والنفايات والمجارير. الشاطئ الذي تنقل الروايات أن المدوّر تستمدّ اسمها من صخوره، اختفى. «كنا نقف على صخرتي الشاشة والزيرة على الشاطئ، ننظر إلى عمق البحر فنرى قعره لشدة صفاء المياه. رُدم البحر وتحوّل إلى عنابر وأرصفة ليستضيف الهنغارات والبوابير. صار الشاطئ ملوّثاً. فضلاً عن قسم ترفد إليه المجارير» هذا ما يتذكّره المختار السبعيني عن طفولته. الشاحنات الخارجة من المرفأ مصيبة أخرى، إذ يسجّل يومياً «مرور العشرات من نوع قاطرة ومقطورة تصطدم بالبيوت والمارة، يقودون بطريقة رعناء بلا رقيب، خاصة الخارجة من الباب رقم 9 الذي فتح خلال الحرب ويجب إقفاله». يتذكّر المختار، بعد أربعين سنة على «مخترته»، ملاعب كرة القدم الخمسة، «كان أحدها هنا مكان الحديقة، استطعنا تشكيل فرق مثل نادي المنتدى كانت تتبارى مع الأندية الكبيرة. بورة التيان كانت أيضاً ملعباً للفوتبول وعمّروا مكانها. ملعب آخر كان بجانب سكة الحديد، وملعب لجهة السكة من الداخل وملعب سَحكيان في النزلة. راحوا كلن». ويتابع: «كانت الكرنتينا أشبه بقرية أمام منازلها مساكب وحدائق وبرك وعرائش، فلّوا السكان، ومن سكنوا فيها غيّروا ملامح الضيعة والبيوت الأثرية التي كانت فيها. خلال الحرب، على أيام الميليشيات، كان فيها نحو 20 ثكنة وجهازاً، وكانت من أكثر المناطق التي تلقت قصفاً لوجود المجموعات المسلّحة فيها، خرب جزء كبير منها بفعل القصف. لم يبق منزل لم يتضرر».

كلّ شيء على حاله المزرية كما كان قبل إعادة إعمار بيروت

نهر بيروت بدوره تحوّل جاراً لا يبعث سوى الروائح والسموم. معمل النفايات لعنة أخرى. المسلخ ظلّ ضيفاً ثقيلاً قبل إقفاله. كذلك معمل معالجة مخلفات مسلخ بيروت (مطحنة العظام) الذي أُقفل سابقاً بقرار من محافظ بيروت... «لكنهم يأتون تحت جناح الليل يحرقون العظام، وعندما ينتهون يدهنون الجدران بالكلس ليخفوا فعلتهم». تحوّلت المدوّر شيئاً فشيئاً، من حيّ تراثي تزيّنه الأبنية الجميلة، إلى منطقة يحدّها الموت ويقطّع أوصالها الأتوستراد. يفصل الأخير بين الجزء الشرقي من المدوّر الذي يحدّه شارع مار مخايل، وجزئها الغربي الذي يحدّه البحر. الفصل ليس جغرافياً فحسب، فالسكان ما بين الأتوستراد وشارع مار مخايل لا يعرفون أنّهم على أرض المدوّر. صاحبة متجر السمانة، صاحب المخرطة، الميكانيكي، معلّم الكهرباء... كلّهم «يشردون» لدى سؤالهم عن اسم المنطقة عقارياً. كأن هذه «القطعة» من المدوّر أضحت بلا هويّة، سوى أنها منطقة تجمع أصحاب مصالح ومعامل صغيرة افتتحوها في منطقة «غير مكلفة» وقريبة من العاصمة. تتعدّد أحياء المدوّر، منها الجميزة، العكاوي، الرميلة، مار مخايل، منطقة النهر، منطقة الجسر، منطقة الخضر، حيّ السيدة... لكن حيّ الكرنتينا - المسلخ هو الذي طبع المنطقة باسمه وطغى أحياناً على اسمها الرئيسي. بالنسبة إلى المختار، فإن منطقته «من أوسع مناطق بيروت العقارية الـ12، بعد المزرعة والأشرفية. لها كيانها الخاص وليست امتداداً لأي منطقة أخرى كما يظنّ البعض». المشكلة في أن «المدوّر الغنيّة بأرزاقها وأرضها كانت من أكثر المناطق التي تعرّضت للقصف خلال الحرب. هجّر قسم كبير من أهلها وهدّمت بيوتهم ولم يعودوا لإعمارها... تحوّلت منطقتنا إلى منطقة منكوبة» يقول. عدم عودة المهجّرين دونه أسباب كثيرة، لكنّ من استطاع إلى العودة سبيلاً لا يمكنه أن يعمّر ويرمّم أو يستردّ أرضه. حلول الجيش اللبناني بعد الحرب مكان الميليشيات، بثكناته وأفواجه الخمسة، جاء على حساب أملاك السكان والعقارات التي يحملون صكوك ملكيّتها. الموضوع معروف ويُفتَح ويُغلَق سنوياً من دون نتيجة. «يقيم الجيش على أكثر من 80 عقاراً، ما يمنع السكان من إعادة إعمار بيوتهم واسترداد أرضهم. لا يوجد عمار جديد، توجد إشارة قيد الدرس على الأبنية، حصلنا على مرسوم لإزالتها، ومع ذلك لا عمار».
«أم حامد» واحدة من المهجّرين الذين قرروا العودة. تشرح وهي واقفة على شرفة منزلها الأبيض كيف تعرّض للقصف و«بُتر» جزء منه، «كان المنزل أكبر وله درج يمتدّ إلى الطريق، لكنّه هُبّط واستبدلنا به لدى عودتنا درجاً قليل العرض. الحمد لله خلصت الحرب. لكنّنا عدنا إلى منطقة منكوبة، لا يسمح لنا فيها بالعمار، أعتقد أنهم يمنعون البناء عبر رفع قيمة رخص البناء. ربما تساوي الرخصة ثمن مبنيَين. ما أعرفه أن أحداً لم يتمكّن من البناء من جديد، ما عدا بناءً واحداً، على ما أعتقد، قرب حديقة الكرنتينا». تتابع رواية قصّتها: «عندما وقعت المجزرة، كنت أنا وأهلي مصيفين في عاليه وبقينا فيها حتى تهدأ الأوضاع. قضينا ذلك الشتاء في عاليه. ثم الشتوية التي بعدها. عرفنا أن بيوتنا سكنها مهجّرون آخرون، لذلك استأجرنا منزلاً في خلدة. قبل 25 سنة، قررت العودة إلى هذا المنزل، وهو ملك لأهلي، هنا يعمل زوجي وأولادي. خلال العواصف نرتعب من البرق والرعد لشدّة هشاشة المباني». تستغرب «أم حامد» سؤالها عن أصل عائلتها، جوابها المختصر يؤكد أن «الأرض لنا، جدودنا ولدوا هنا، يمكن أصلهم من البلاد العربية، لكن لا أحد في لبنان إلّا وأتى من بلد آخر، ونحن لسنا استثناء».
تبعات الحرب لحقت أيضاً بمستشفى الكرنتينا. «استخدمته الميليشيات لنقل الجرحى والمرضى، لذا استهدف خلال الحرب وتهدم جزء كبير منه. حالياً، مع إدارته الجديدة يجري تحسينه وتجديد المعدات وبناء جناح جديد للأطفال. بات يستقبل كل الحالات المرضيّة. نجده متنفّساً لنا. فبعد تأهيله أصبح يوفي بالغرض الطارئ، خصوصاً أننا نحتاج إلى برمة طويلة قد تستغرق أكثر من نصف ساعة خلال الزحمة للوصول إلى أقرب مستشفى جيّد». و«البرمة» المقصودة سبّبها إقفال «فتحة» الأتوستراد قبالة مركز الدفاع المدني، بالرغم من وعود «بعض المراجع» بإنشاء جسر بدلاً منها. الوعود لا تنفّذ، خصوصاً تلك التي تقطع خلال الزيارات الانتخابية. «الكرنتينا بدنا نعطيها الأولويّة، إنها مدخل بيروت الشمالي»، هذا ما يكرّره المرشّحون للأهالي خلال كل انتخابات، لاحقاً تتبخّر الزيارات والوعود. هذا ما اعتاده السكان إزاء مطالبهم بشأن تحسين البنى التحتية والكهرباء والمياه والطرقات. خزانة مكتب المختار تشهد على عشرات المطالب المرفوعة إلى الجهات «غير» المعنيّة بتحسين المنطقة. في الانتخابات النيابيّة الأخيرة ضُمت المدوّر إلى دائرة واحدة مع الأشرفية والرميل والصيفي، وهذا أعطى أملاً للسكان. لكنه أمل شاحب يشبه ألوان جدران بعض المباني التي طُليت أخيراً بمبادرة من النائبة بولا يعقوبيان.


«الأسامي مش كلام»


لتسمية المدوّر قصّتان. واحدة تقول إن المنطقة أخذت اسمها من عائلة «المدوّر» التي كانت تسكن المنطقة قبل مئات السنين، ولها أملاك كبيرة. أو أنها حملته من صخرة على شاطئها ذات شكل شبه «مدوّر»، كان أهالي الأشرفية، وخصوصاً «السراسقة الأغنياء» يجلسون عليها لقضاء الوقت ولعب الورق وتدخين النراجيل. تقول الحكاية إن المتداعين إلى اللقاء على الشاطئ كانوا يحدّدون المكان «على الصخرة المدوّرة» إلى أن راج الاسم الذي نعرفه الآن. عائلاتها: شحيبر، الكحالة، عواد، العربانية، زعرور، الهبر، روفايل، الجلخ، سعد، الحرديني، قصبو. بعض عائلات العرب: الخضر، المرعي، الخطيب، السعيد، الإبراهيم. أما تسمية الكرنتينا، فتعود كما يعرف كثيرون، إلى الـ «Quarantaine» (الكارنتين) أي الأربعون يوماً التي كان يقضيها الحجّاج الواصلون إلى المرفأ، على مدخل بيروت الشمالي، في الحجر الصحّي خوفاً من نقلهم الأوبئة والأمراض. أما المسلخ الذي تعرف به المنطقة، فقد استُحدث أيام الانتداب الفرنسي، «حينذاك جاؤوا بخروف وذبحوه وقسموه إلى شقف ووزعوها على شاطئ بيروت من المنارة إلى عين المريسة وميناء الحصن والمرفأ هنا، علّقوا الشقف في الهواء، الشقفة التي بقيت صالحة وطازجة، هي تلك التي علّقت هنا في الكرنتينا، وعلى أساسها أنشأوا المسلخ» يقول مختار المدوّر فرنسوا الجلخ (الصورة).