خبر وفاته، وقع كالصاعقة على أصدقائه ومحبيه. قبل أكثر من ثماني سنوات، حزم جوزف حرب (1944 ـ 2014) أمتعته وغادر بيروت، ليعتكف في بلدته المعمرية بالقرب من صيدا (جنوب لبنان)، لأنّه اعتقد أنّ «أيّ وجود مع الآخرين اليوم، خارج مفهوم الوظيفة، هو نوع من تضييع الوقت»، وفق ما قال في حديث سابق لـ«الأخبار» (الأخبار 9/8/2009). أوّل من أمس، رحل الأمين العام السابق لـ«اتحاد الكتاب اللبنانيين» بهدوء على أعلى تلّة مطلة على البحر، وهو على مشارف السبعين. الترحال كان السمة الغالبة على السنوات الأولى من حياة حرب. ابن الدركي في قوى الأمن الداخلي، تنقّل بين بلدة الناقورة حيث ولد، ومدينة صور الجنوبية، قبل أن يصل إلى طرزيّا، إحدى بلدات قضاء جبيل. خلال إقامة العائلة هناك، سجّل الوالد جوزف وشقيقته في مدرسة داخلية تابعة لدير «راهبات القلبين الأقدسين» في جبيل، حيث بقيا نحو خمس سنوات.
كان الصبيَّ الوحيد في القسم الداخلي من المدرسة، فصار يخدم الخوري في قداس المساء، ويقرأ الرسائل، وكانت القراءات التأمّلية في الشهر المريمي، وشهر القديس مار يوسف، وشهر قلب يسوع من حصّته. من هنا، بدأت علاقة حرب مع اللغة. وتأثّر أيضاً برائحة البخور، وصور القديسين والقديسات، ومختلف تفاصيل الدير والكنيسة. لاحقاً، استثمر الراحل مناخات هذه الأماكن ورمزيتها الدينية في أعماله الشعرية.
التمرّد والرفض ولدا عند صاحب ديوان «المحبرة» (الريّس ــ 2009) منذ أيام المدرسة الداخلية. لعلّ أبرز مثال على هذه النزعة هو حادثة القنديل الشهيرة التي تحدّث عن تفاصيلها خلال استضافته في برنامج «حوار العمر» عام 1998 على lbc. في أحد الأيّام، كان الطفل جوزف يساعد إحدى الراهبات في إشعال قنديل، فوقع من يده غطاؤه الزجاجي وانكسر. «إذا كسَرْت الزجاجة مجدداً، فسيظهر عليك الشيطان ليلاً». هذا ما قالته له الراهبة، محاولةً ردعه عن تكرار «الخطأ»، فما كان من حرب إلا أن أوقَعَ كل القناديل «لأنّني أحب الشيطان وأريده أن يظهر لي»، لكنّه لم ينل ما يريد.
في المقابلة نفسها، تطرّق إلى القسوة التي كانت تخيّم على طريقة التربية في المدرسة والمنزل حينها، مشدداً على أنّ والده المتديّن حاول إقناعه بالرهبنة مرّتين. من ذلك الدير الجبيلي، شاهد حرب البحر للمرّة الأولى، فارتعب منه، قبل أن يقع في حبّه عندما اكتشف أنّ الغيوم تتشكّل منه. فهو يعشق الطقس الغائم لا الصافي، ويفضّل الليل على النهار، ويحبّ «التناقضات الطبيعية في فصل الخريف». كان لطرزيّا مكانة خاصة في قلب الراحل، «بقسوتها ولينها». ومن شجرة الأكاسيا التي احتضنته، استوحى عنوان ديوانه الأوّل «شجرة الأكاسيا» الصادر عام 1986 عن «دار الفارابي».
بعد طرزيّا، حطّت العائلة رحالها عام 1959 في منطقة برج البراجنة (ضاحية بيروت الجنوبية) حيث أكمل حرب دراسته التكميلية والثانويّة في «المعهد الأنطوني». في العشرين من عمره، أعطى دروس لغة للراهبات الأنطونيات في الدكوانة، وفي السنة التالية، صار يعلّم الصفوف التكميلية في مدرستهن وفي مدرسة ثانية وثالثة، كذلك تسجّل في كليتي الحقوق والآداب عام 1964.
في الستينيات، طبع حرب باكورته النثريّة «عذارى الهياكل» (1960)، ودخل لاحقاً «الإذاعة اللبنانية» حيث قدم بصوته برنامج «مع الغروب» (1966) وكتب قصائد كلاسيكية ألقتها ناهدة فضل الدجاني بصوتها في برنامج «مع الصباح».
«أجمل ما حصل في حياتي هو توقفي عن الذهاب إلى المدرسة»، قال مرةً صاحب قصيدة «إسوارة العروس» (1984) التي غنّتها فيروز، مضيفاً أنّ «أسوأ ما حصل في حياتي هو فقداني لمن أجبروني على الذهاب إليها»، أي والديه. صحيح أنّ العائلة لم تكن ميسورة، لكن أهم طموحات الوالد كان تعليم أولاده لأنّه لم يحظ إلا «بمبادئ القراءة والكتابة».
لطالما انزعج جوزف حرب من «الخطأ الكبير» الذي ارتكبه في حياته، لأنّه «عشقت وأردت الزواج لكنني فشلت. وأنا المذنب». الشاعر الذي بقي أعزب طوال حياته، لطالما رفض الذكورية التي تفيض بها اللغة العربية والتاريخ، مشدداً على أنّ «نتيجة الإذلال التاريخي الذي تعرّضت له المرأة، فمن الطبيعي أن أعاملها كأيقونة وقديسة في أعمالي».
قال جوزف حرب ذات مرّة إنّ «أكبر خوف يعانيه الإنسان هو الموت. رغم كل الحقائق الدينية، فكل الناس يتوقون إلى الخلود». لكن الأكيد أنّ الأخير حقق أوّل من أمس ما كان يريده حين كتب: «زهقت من هالكون/ زهقت من هالكلّ/ وطالع ع بالي فِل».

يمكنكم متابعة نادين كنعان عبر تويتر | @KanaanNadine