أرادت وزيرة الدولة لشؤون التنمية الإدارية أن تكون إيجابية وبنّاءة! مي شدياق التي قيل إنّها ستلعب دور «الصقر»، حسب توزيع الأدوار في كاستينغ حكومة «إلى العمل»، دخلت إلى مجلس الوزراء متنكرة في ثوب «حمامة». قررت ملاطفة حزب الله قليلاً، فغاصت في مخزونها الثقافي، وسلّم قيمها، ووعيها للعالم، بحثاً عن حيلة يمكن أن تدعمها في مساعيها الحميدة. وكان أن فاجأتنا معاليها بالجملة القاتلة التي ستبقى في سجل المآثر: «لو كانت لدى حزب الله نية بتحدّي المجتمع الدولي، لما عَيّن وزيراً للصحة يضع ربطة عنق ويصافح باليد». لقد وجدت المعادلة السحريّة: للتخفيف من أبلسة الحزب، نلبسه طاقية بيضاء! هذا الأبيض الذي يفرّق بين الخير والشرّ، كما تعلّمتهما مي الصغيرة في مدرسة الراهبات. أبيض «الحضارة» و«الرقيّ» و«الانفتاح»، في مقابل أسود «التخلف» و«الظلامية» و«الارهاب»، حسب ناموس كوني يفرضه المركز الغربي المهيمن على المعمورة برمّتها.من أين تأتي وزيرتنا بكل هذه الثقة لكي تتعامل بفوقيّة مع جزء أساسي من نساء مجتمعها ورجاله؟ لا شك في أنّها تنظر إلى العالم، على أساس تراتبية حضاريّة واضحة، تخضع لها الشعوب والمجموعات والأفراد. هناك قيم العالم الثالث المتخلفة، والقيم الغربيّة المتقدّمة. هناك الجماعات الدنيا، والجماعات المتفوّقة. إنّّها الدونيّة تجاه «الرجل الأبيض» الذي لا تستطيع شدياق أن تنظر إلى نفسها وإلى مجتمعها إلا من خلاله. إنّه التماهي مع الغرب، وكره الذات، والاستماتة من أجل «الارتقاء الثقافي»، تكفيراً عن خطيئة أصلية هي الانتماء إلى العالم العربي ـــ الاسلامي. هكذا تشعر أنّها «ارتقت» (هي وجماعتها) إلى مرتبة الكائن المتفوّق، تاركة للآخرين الذين ليسوا بهذا «البياض»، أن يتخبطوا على هامش الحضارة.

بوليغان ـــ المكسيك

تلك هي النسخة «الفينيقيّة» من «نظريّة النشوء والارتقاء»، بعدما راجعها ودقّق بها واحد من فلاسفة «الانعزالية المسيحية». الاختلاف مع النموذج الغربي ممنوع، هناك منظومة قيم موحّدة، وتقاليد وأعراف وطقوس موحّدة، وزي واحد، وعقيدة واحدة، إذا شئت أن تنتمي إلى نعيم «المتحضرين» «الأخيار» الذين يعترف بهم «المجتمع الدولي». هكذا فإن المرأة المحجبة «متخلّفة»، والمرأة الحاسرة «متحضّرة». وحسب المنهجيّة نفسها نميّز بين لابسي الكرافات ونابذيها، بين مصافحي النساء والمعرضين عن المصافحة، بين أصدقاء الغرب وأنصار الممانعة. لقد لقّنتنا الوزيرة درساً في التحضّر والتخلّف حسب معايير الحضارة المهيمنة. من المؤسف أن فرانز فانون مات قبل أن يتعرّف إلى مي شدياق. الكوجيتو الديكارتي الشهير «أنا أفكر إذاً أنا موجود»، تحوّل مع وزيرة الدولة لشؤون التنمية الإدارية التي كادت تكون وزيرة ثقافة، إلى: «أنا أرتدي الكرافات وأصافح السيدات... إذاً أنا جدير بثقة المجتمع الدولي واحترامه».
المشكلة أن هذا الاستلاب الفكري، والتبعيّة العمياء للنموذج الغربي، لا يقتصر على «اليمين الانعزالي»، بل يتهدد أكثر فأكثر بعض النخب «التقدميّة»، في زمن الـ «أنجي أوز» و«المجتمع المدني» المدعوم والمؤطّر غربيّاً. هذا الزمن اختلطت فيه المعايير، وتنمّطت الأفكار، وتفرّغت الشعارات والقضايا من روحها ومضمونها. المناضل صار ناشطاً، والناشط يستنسخ النموذج الكولونيالي في تعيين القضايا، والقضايا الحيويّة قد تصبح معلّبة، معقّمة، تخضع لمعايير الخير والشر كما يحددها الخطاب الغربي المهيمن. كل القضايا معرّضة للتهجين اليوم، بفعل وصاية الفكر الواحد: الديمقراطيّة وحقوق الانسان، العدالة والحوكمة الرشيدة، الجندرة وحقوق المرأة… وللأسف الحركة المطلبيّة والحركة النسويّة.
طبعاً، لا يحق لنا أن نعمم، ولا أن نحاكم الحركة النسويّة في لبنان، التي تبحر مناضلاتها (ومناضلوها) عكس التيار، فارضات حضورهن كقوّة أخلاقيّة ضاغطة في مواجهة نظام بطريركي مترسّخ في القيم الاجتماعيّة والتربويّة والسياسيّة. لكن هذا الصراع الصعب يسقط إذا بات استعراضاً. وإذا كان النمط الغربي إيّاه الذي تحتكم إليه مي شدياق، هو معيار بعض «النسويّات» ومحرّك نضالهنّ. وإذا صنّمنا المرجع الغربي، واكتفينا منه بالقالب والشعار. الخوف كل الخوف، في ظل طغيان الظواهر الاستعراضيّة، هو من سوء تفاهم كبير يحرّف جوهر النضال، ويبشر بأصوليّات من نوع جديد. ألم يحاول بعض الرفيقات اقناعنا بهذه «النجمة» أو تلك من افرازات النظام الذكوري، على أساس أنّها «بطلة تحررية» أو «أيقونة نسويّة»؟
أمس، ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي، وبعض الاعلام، بأصداء معركة عبثيّة في بيروت. صفحة تابعة لإحدى المجموعات النسويّة صبّت جام غضبها على أستاذ في كليّة الآداب في الجامعة اللبنانيّة، أعطى لطلابه وطالباته في امتحان اللغة العربيّة، نصّاً بدا للمتسرّعين «مسيئاً للمرأة، مروجاً للصورة السلبية الذكوريّة عنها». في الحقيقة كان النص مقتطفاً من «الأجنحة المتكسّرة»! وجبران خليل جبران (الذي كان في أدبه وزمنه نصيراً للمرأة) كتبه قبل أكثر من قرن، من وجهة نظر تحرّر المرأة وليس العكس. أما العبارات السلبيّة التي صدمت بعضهم/ بعضهن، فهي من ضمن المعادلة الجدليّة للسرد. كيف وقعت زميلاتنا النسويات في هذا الفخ؟ وكيف جعلن من بطلة جبران، سلمى كرامة، نصيرة للنظام الذكوري؟
لا نتمنّى أن يتحول النضال النسوي إلى محاكم تفتيش، محافِظة ورجعيّة، كما حدث أحياناً في الولايات المتحدة مثلاً، تطالب بمنع المعارض والأفلام، وبمصادرة النصوص الأدبيّة. إن الاستلاب للنموذج الغربي، خارج سياقه وظروفه التاريخيّة، يدفع أحياناً بعض النسويّات إلى التعامل السطحي (الذكوري) مع المرأة، مع جسدها ورغبتها وحجابها، على حساب كرامتها وحريتها وحقوقها… في حين أن المطلوب تعامل نقدي راديكالي مع النظام الذكوري، والخطاب الذكوري، وهما امتداد بأشكال المختلفة للنظام الاستعماري، ولهيمنة الرجل الأبيض. ربما كنا في حاجة (جميعاً) إلى مزيد من النضج والجذريّة، والابتعاد عن الاستعراضيّة والشعار وسباق تسجيل المواقف… ليس هناك ما هو أخطر من النظر إلى الذات من وجهة نظر المستعمر، وافرازات النظام الذكوري.