أول من أمس، أحال وزير العدل سليم جريصاتي إلى النائب العام لدى محكمة التمييز القاضي سمير حمود كتاباً بعنوان «هدر الأموال العمومية في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي». هذا الكتاب يستند إلى وثيقة «فريدة» من نوعها، هي عبارة عن تقرير مالي أعدّه خمسة أعضاء في مجلس إدارة الضمان بتاريخ 10/1/2018 عن «وضع محاسبي ومالي غير صحيح وغير شفّاف»، فضلاً عن «العجز المتزايد في ضمان المرض والأمومة»، و«تفشّي الغشّ والفساد»، وهو مرفق بتقرير للمدقق الخارجي (UTC international) يتطرق إلى أخطاء جسيمة في إعداد قطع الحساب لعام 2010. توقيت الإحالة، والجهة السياسية التي تقف وراءها، والجهة السياسية التي تعتبر نفسها مستهدفة، كلها عناصر قد تحوّل الصندوق إلى ساحة لمعركة سياسية بين التيار الوطني الحر وحركة أمل، بمعزل عما إذا كانت الهجمة العونية على الضمان مقصودة سياسياً، أو ستعمل «أمل» على تسييسها للدفاع عن نفوذها في هذه المؤسسة. فالتيار يريد أن يستلم مواقع في الصندوق، ليخرق سيطرة «أمل» المطلقة منذ عقود، وهو يطالب بأن تكون له كلمة وازنة في تعيينات المديرين وتشكيلات الموظفين وتوزيع المكاتب والسلفات المالية وسائر القرارات المهمة التي تشكّل أدوات انتفاع وخدمات تقدّم في إطار الزبائنية السياسية. وبالعكس، فإن «أمل» تتشدّد في الاحتفاظ بالسيطرة الكاملة من دون أي تقاسم للنفوذ مع أحد، سواء بسيطرتها على مجلس الإدارة والإدارة ومن خلالهما على سائر المديريات.كان لافتاً أن الإحالة التي قام بها وزير العدل، تأتي بعد أكثر من سنة على إعداد التقرير وتسجيله في مجلس إدارة الضمان. وبحسب أعضاء في مجلس إدارة الضمان، فإن اثنين من بين معدّي التقرير الخمسة، هما أنطوان واكيم ورفيق سلامة، كانا قد زارا رئيس الجمهورية ميشال عون وسلّماه نسخة من التقرير بعد إعداده مباشرة كما سلّما نسخاً من التقرير لعدد آخر من المسؤولين أيضاً في محاولة لحثهم على القيام بتغييرات في الضمان تتعلق بمواقع أساسية فيه. وأكثر من ذلك، فبحسب مصادر مطلعة، إن كل محاولات واكيم وسلامة جاءت في السياق الزمني للدعوة التي وجهها وزير العمل محمد كبارة إلى الهيئات الأكثر تمثيلاً لتسمية مندوبيهم إلى مجلس إدارة الضمان. وعملية تسمية المندوبين توقفت بعدما أوعز المدير العام لوزارة العمل جورج إيدا، المحسوب على التيار الوطني الحر، إلى مندوبي الوزارة عدم حضور انتخابات جمعية الصناعيين المخصصة لتسمية مندوبهم لمجلس الضمان. وقد تردّد يومها أن إيدا قام بهذا الأمر بعدما تلقى اتصالاً من «القصر» لأن الانتخابات كانت ستقصي التيار عن مجلس الضمان.
قد لا تنطوي إحالة جريصاتي على نيّة سياسية، إلا أنها بحسب مصادر حزبية من الطرفين، ستشعل حتماً المعركة المفتوحة بين التيار وأمل في أكثر من إدارة أو مؤسسة عامة. في صندوق الضمان، على سبيل المثال، كانت هناك أكثر من معركة بين التيار وأمل. النائب السابق نبيل نقولا أطلق معركة على تشغيل عدد من المياومين في الضمان، ولا سيما العاملين في مركز طرابلس، وكان ثمة خلاف على تعيين مدير مالي للصندوق قبل أن يذهب الأمر من نصيب مستخدم لا يعترف به التيار ولا تعترف به القوات اللبنانية. أما موقع المدير الإداري فلم يحصل عليه التيار كاملاً بل نال تعييناً يعدّ مخالفاً للقانون وغير مستدام وبوساطة مباشرة من نائب كتلة التحرير والتنمية ميشال موسى.
«التيار» يريد أن يستلم مواقع في الصندوق، ليخرق سيطرة «أمل» المطلقة


وفي غير الضمان، المعركة المفتوحة بين الطرفين، دفعت بوزير الاقتصاد رائد خوري إلى الادعاء على بشارة الأسمر المنتخب رئيساً للاتحاد العمالي العام بأصوات نقابات حركة أمل، كما استدعت منه توجيه إنذار له بوجوب الحضور إلى مركز عمله في مرفأ بيروت. وبمعزل عن مضمون هذه الملفات المثارة بما فيها الملف الأخير المتعلق بالضمان الاجتماعي، ثمة الكثير من هوامش الحرب المفتوحة بين الطرفين، وأكبرها المعركة التي اندلعت يوم تلزيم معامل إنتاج الكهرباء وما سرّب من كلام على لسان النائب ياسين جابر عن الفساد في العقود وسواها. ولا يمكن إغفال ما قيل عن إقصاء لحركة أمل عن وزارة الخارجية مقابل إقصاء للتيار عن المراكز الأساسية في وزارة المال.
لم تكن دوماً ساحة الصراع بين التيار وأمل في القضاء أو في المؤسسات العامة أو في مجلس الوزراء، بل كانت أيضاً على «تويتر» بين النائب زياد أسود ووزير المال علي حسن خليل، حيث تبادل الطرفان اتهامات بشأن كيفية إنفاق الأموال العامة وجبايتها.
الخلاصة أن «الضمان الاجتماعي»، المؤسسة التي تمثّل إحدى آخر «قلاع» الدفاع عن حقوق الطبقة العاملة، دخلت حلبة الصراع بين حركة أمل والتيار الوطني الحر. وما يؤمّل هو أن يتم إصلاح ما فسد فيها، وتحسين مستوى تقديماتها للعمال... والأهم، أن تنجو.



«أمل»: توقيت إثارة الملف مستغرب
لم تتمكن «الأخبار» من الحصول على تصريح أو تعليق من المدير العام للضمان الاجتماعي محمد كركي على إحالة وزير العدل سليم جريصاتي ملف هدر الأموال في الضمان على النائب العام لدى محكمة التمييز، فيما رفض بعض نواب حركة أمل التعليق قبل الاطلاع على مضمون الإحالة التي ستناقش اليوم في عدد من الاجتماعات واللقاءات. لكن رئيس المكتب العمالي لحركة أمل علي حمدان قال لـ«الأخبار» إنه يستغرب إثارة تقرير أعدّ قبل نحو سنة وإحالته على النائب العام التمييزي اليوم. وتمنى حمدان «ألا تكون هناك نوايا سياسية في هذا الأمر، وأن تطبق القوانين على الجميع لأن الاستهداف لمؤسسة الضمان هو استهداف لكل المضمونين والفقراء». ولفت إلى أن التقرير الذي تستند إليه إحالة جريصاتي، يأتي «بعد سنوات طويلة من وجود مجلس إدارة ضمان «ناقص» فيه أعضاء مستقيلون وفيه أعضاء أصبحوا في ذمة الله، وفيه أعضاء بحكم المتغيبين الدائمين، علماً أن هناك من أفشل تشكيل مجلس الإدارة في عام 2018».


جريصاتي: التوقيت مرتبط بتسلّمي الإخبار
يقول وزير العدل سليم جريصاتي، إنه قبل نحو أسبوع تسلّم إخباراً من أعضاء في مجلس الضمان موثّق بالمستندات عن وجود هدر في الأموال العمومية العائدة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ناتج بصورة أساسية من الإهمال في القيام بالواجبات الوظيفية وعن مخالفة الأحكام القانونية المتعلقة بإدارة مالية الصندوق فضلاً عن تورّط بعض معقبي المعاملات والموظفين في عمليات تزوير المستندات الرسمية العائدة للمشتركين.
(هيثم الموسوي)

يؤكد جريصاتي أن هذه الخطوة لا تندرج في أي سياق سياسي، مشيراً إلى أنه لا يملك إلا أن يحيلها إلى النائب العام لدى محكمة التمييز. ووصولها إليه في هذا الوقت هو المبرّر الوحيد لعدم إجراء أي إحالة سابقاً، وهو بالتالي يقوم بواجباته حصراً.
إحالة جريصاتي تتضمن تفنيداً للمخالفات على عدة مستويات: الإهمال الوظيفي، وجود عمليات تزوير في الحسابات، تغطية اختلاس المال العام، ريبة مبرّرة بالأرقام وقيود الحسابات المالية للصندوق.
«وبالإضافة إلى ما سبق، فقد أُبلغ وزير العدل مقتطفات عن تقرير وضع في تموز 2017 من بعثة الاتحاد الأوروبي لواقع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في ضوء مراجعة الخطّة الكلية الموضوعة للصندوق في هذا الخصوص، وهو يشير إلى الوضع المأسوي والمتباطئ للمعلوماتية والاتصالات في الصندوق… أما في ما يتعلق بالمؤسسات الوهمية التي تبين أنها لم تدفع قرشاً واحداً من الاشتراكات منذ سنوات واستفاد مئات الأشخاص على اسمها من تقديمات الصندوق من دون رقيب أو حسيب والتي ضجّ الإعلام بها يبدو أن مجلس الإدارة قد فوجئ بهذه الفضيحة حيث أنه لم يتحدّد حتى اليوم لا حجم الخسارة المتأتي عنها ولا المسؤولون عنها».
وتضيف الإحالة: هذه الوقائع تشكل بالحد الأدنى إهمالاً بالقيام بالواجبات الوظيفية وإخفاء هدر في الأموال العمومية أو اختلاسها وتستدعي فتح تحقيق قضائي فيها وتنطبق عليها الجرائم المنصوص عليها في المواد 359, 360, 371, 373, 376 من قانون العقوبات.