في الذكرى الحادية عشرة لرحيل المناضل والقائد الفلسطيني والعربي جورج حبش (26 كانون الثاني/ يناير 2008)، أحد أبرز مؤسسي حركة القوميين العرب، والأمين العام المؤسس للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، يُصدر «مركز دراسات الوحدة العربية»، مذكّرات جورج حبش في كتاب بعنوان «صفحات من مسيرتي النضالية»، في تغطية لأبرز محطات تجربته النضالية. خصّ المركز «الأخبار» ببعض فصول الكتاب، تولّى تقديمها ومراجعتها الكاتب سيف دعنا وستُنشر تباعاً في حلقات.
بعد تجربتي في التدريس في يافا انتقلتُ إلى متابعة دراستي في الجامعة الأميركية في بيروت، حيث اخترت دراسة الطب. بدأت دراستي هناك عام 1944 وانتهت عام 1951. ذهبت من يافا إلى رأس الناقورة مروراً بحيفا، ومن ثم إلى بيروت، بالسيارة. بانتقالي إلى بيروت للدراسة، شعرتُ أنني أنتقل إلى جو جديد مختلف تماماً. التقيت هناك بطلاب من جنسيات عربية مختلفة، وكنّا نقضي معظم الوقت داخل الحرم الجامعي. ما زلت أذكر مطعم ومقهى «فيصل» الشهير الذي كان ملتقى الطلاب، حيث أصبح علامة بارزة في الحياة الجامعية وقد بقي هذا المطعم شهيراً ومعروفاً حتى سنوات الحرب اللبنانية، وكم أسفتُ لإغلاقه في ما بعد بسبب ظروف الحرب. من ضمن الدراسة الجامعية كان هناك مجموعة من المواد الاختيارية المطروحة خارج مجال التخصص، وكان علينا أن ننتقي من هذه المواد بحسب رغبتنا وميولنا، فما كان لي إلا أن اخترت مادة الفلسفة. هنا أذكر أستاذي في هذه المادة البروفسور شارل مالك.
ما زلت أذكر كيف كان يتهكّم على فكرة العروبة والقومية العربية، وهو ما كان يشعرني بالألم، لكن علاقتي به كانت ودية رغم الاختلاف في وجهات النظر. وقد أحببت مادة الفلسفة كثيراً حين قمت بدراستها.
ومن أصدقائي المقربين في الجامعة الأميركية كان الدكتور منير شماعة والدكتور منصور أرملي، كما أذكر الدكتور إبراهيم داغر والدكتور زهير ملحس وسعد المعشر والدكتور جمال الشاعر وآخرين كُثراً في مجال الطب، والدكتورة سعاد الأزهري التي كانت الطبيبة الوحيدة التي تخرجت معنا في هذه الدفعة. أما وديع حداد وأحمد الخطيب، فكانا في الدفعة التالية. كما أذكر من أصدقائي القريبين خارج كلية الطب الصديق العزيز علي منكو، رحمه الله، وكذلك نزار جردانة وموسى وحسن حمدان. وأذكر أن أحبّ الأنشطة إلى قلبي كانت الرياضة والسباحة والقراءة وسماع الموسيقى العربية، محمد عبد الوهاب بوجه خاص، وكذلك الموسيقى الكلاسيكية، والمشاركة في عدد من الأنشطة الطلابية. عام 1947، في 29 تشرين الثاني/نوفمبر، اتخذت هيئة الأمم قراراً بتقسيم فلسطين، وما زلت أذكر تأثير ذلك القرار لا في الطلاب الفلسطينيين فحسب بل في الطلاب العرب كافة. وأصبح هذا الموضوع، الموضوع السياسي والوطني والقومي، موضع اهتمام الجميع وشغلهم الشاغل ليل نهار. قبل ذلك التاريخ لا أذكر أنه كان لي اهتمامات سياسية، وبخاصة أني كنت طالباً جيداً تنحصر أحلامي في أن أصبح طبيباً نموذجياً. وكذلك كنت أمارس في قسم من الوقت السباحة والرياضة كما كنت منخرطاً في الجو الاجتماعي الذي كان الطلاب يعيشونه آنذاك، أقصد بذلك الأنشطة الشبابية والاجتماعية التي يعرفها كل من كان في الجامعة الأميركية في بيروت في ذلك الوقت ومحاضرات ثقافية قيّمة لأهم المفكرين وأساتذة الجامعة. أما بعد قرار التقسيم وسخونة الوضع السياسي الذي ولّده ذلك القرار، فقد تغير كل شيء بالنسبة إلي. في هذه الحقبة كان طلاب الجامعة وطلاب الثانويات في بيروت ولبنان بوجه عام ينطلقون بتظاهرات ضد مشروع التقسيم وينادون بالجهاد، فكانت تلك السنة الدراسية سنة تظاهرات وإضرابات واعتصامات وشتى أنواع الأنشطة الوطنية. أذكر أننا اعتصمنا يوماً في قاعة «West Hall» في الجامعة الأميركية، مطالبين الحكومات العربية بأن تقوم بتدريبنا وإرسالنا إلى جبهات القتال.
حين بدأت أفواج اللاجئين تصل إلى لبنان من مناطق شمال فلسطين، كان يجن جنوننا ونتابع الخروج بالتظاهرات مطالبين بدخول الجيوش العربية إلى فلسطين. أذكر أنني انضممت إلى مجموعة كانت تقوم بزيارة أماكن اللاجئين لمعرفة حاجاتهم وللاضطلاع عن قرب على أوضاعهم لتوفير بعض المستلزمات والحاجات الرئيسية لهم، إذ إن أهلنا كانوا قد تركوا مدنهم وقراهم من دون أن يتمكنوا من حمل أي شيء معهم نتيجة الإرهاب الصهيوني ونتيجة الطرد الإجباري وسياسة الاقتلاع التي مورست ضدهم. كم كان يهمني في ذلك الوقت أن أسمع قصصهم وأحاول الدخوٍل إلى نفسياتهم. لم يكن يخطر ببالي صراحة أن يتمكن اليهود بأي شكل من الأشكال من ربح المعركة ضدنا، فهذه الأرض أرضنا والبلد بلدنا وقد نشأنا ونحن ننظر إلى اليهود كجبناء لا يمكن أن يصمدوا أمام العرب. وكان العربي في مخيلتي ذلك الفارس الشجاع المقدام الذي لا يُهزم. لذلك كانت تلك الأحداث بالنسبة إليّ لا تصدق وكأنني في كابوس. كنت عاطفياً جداً وأصبحت أمتلك القدرة على الحديث والنقاش والمواجهة، كما كنت أشعر أنني أريد ترك الدراسة فوراً والذهاب إلى ساحات القتال لأقوم بواجبي بأي شكل.
في تلك الفترة اتصل بي زميل جامعي من كلية الآداب اسمه معتوق الأسمر، وحيّا اندفاعي وإخلاصي، وقال لي: «إن العمل بالعاطفة وحدها لا يكفي؛ علينا أن ننظّم أنفسنا، فالعدو يعتمد على العلم والتنظيم ولا يمكن أن نتغلّب عليه إلا بالعلم والتنظيم». بدأنا في النقاش، فاقترح علي الانضمام إلى تنظيم سري عربي من حيث الشمول وليس فلسطينياً فقط. وقال لي إنه لا يعرف قيادة هذا التنظيم ولكنّه يعرف فقط المسؤول الذي يتصل به. وقال رداً على أسئلتي الكثيرة إن ما يستطيع فعله هو أن يصلني بهذا المسؤول لأحاول أن أفهم منه كل شيء. لقد عرفنّي إلى المسؤول الذي كان طالباً في الجامعة أيضاً وهو لبناني الأصل اسمه رامز شحادة، وهو كان رئيس النادي الثقافي العربي في رأس بيروت في ذلك الوقت. قال لي ذلك المسؤول: «إننا سننظّم مجموعة محاضرات يقدمها الأستاذ قسطنطين زريق، وإن هذه المحاضرات هي أقرب إلى الاجتماعات السرية أو على الأقل غير المعلَنة». كانت تعقد تلك الاجتماعات في النادي الثقافي العربي القريب من الجامعة الأميركية في رأس بيروت، وما زلت أذكر الأستاذ قسطنطين زريق وهو يلقي علينا بعض المحاضرات. كان يحضر ومعه رؤوس أقلام، وكانت المحاضرات تتمحور في ذلك الوقت حول القومية العربية وكيف أنها تمثّل الطريق لمواجهة خطر المشروع الصهيوني والنهوض بالأمة العربية كلها واستعادة وتجديد الحضارة العربية المجيدة. ومع أني كنت أواظب على حضور تلك المحاضرات التي كانت تُعقد حسبما أذكر مرة في الأسبوع، إلا أنني كنت مشدوداً للتطوع وإعداد نفسي للقتال، وكنت أسأل معتوق ورامز باستمرار «متى سيعدّ لنا التنظيم فرصة التدرُّب والالتحاق بالثوار؟ وكنت أتمزق حين أجد أن العام الدراسي، 1948، يكاد ينتهي من دون أن نلتحق بالقتال. وحين أتت العطلة الصيفية ـــــ وأعتقد أن إدارة الجامعة اختصرت فترة الدراسة بسبب الظروف السياسية الملتهبة آنذاك ـــــ حينها وجدت نفسي غير قادر على البقاء في بيروت وأنني ما لم أتمكن من الالتحاق بالقتال عن طريق التنظيم فسأذهب إلى فلسطين مباشرة إلى أهلي، وهناك أحاول أن أرى ما أستطيع فعله. أذكر أنني أثناء حضوري الندوات المصغرة التي كان يلقيها علينا الأستاذ قسطنطين زريق تعرفت إلى الرفيق هاني الهندي الذي كان يدرس في كلية الآداب في الجامعة الأميركية في ذلك الوقت. وقبل انتهاء العام الدراسي، أي عام 1948، أُجريت انتخابات الهيئة الإدارية لجمعية العروة الوثقى، وكان معتوق ورامز وآخرون من الشبان العرب الذين هم أقدم مني في الجامعة الذين تهيأوا لانتخابات العروة الوثقى وقدموني كنائب رئيس لها، فنجحت قائمتنا وقررنا المباشرة بنشاطنا في العام الدراسي الجديد. كان الرئيسَ المرشحَ لجمعية العروة الوثقى في ذلك الحين شابٌ سوري اسمه إدمون الباوي (كان من ضمن قائمتنا).

خلال حفل زفافه في دمشق عام 1961

قبل أن تحين العطلة الصيفية، كنت قد تسلمت رسالة من الأهل في فلسطين يطلبون مني البقاء في لبنان بسبب الأحوال المضطربة في بلادنا حينذاك، وأرسلوا لي مبلغاً من المال يكفيني إلى حين انجلاء الوضع العام. لكنني لم أستطع أن أتصوّر نفسي باقياً في لبنان في الوقت الذي يلتهب الصراع في فلسطين مع أولئك الذين يريدون اقتلاعنا من أوطاننا. لذلك توجّهت إلى فلسطين عن طريق الأردن هذه المرة، لأن الطريق الذي اعتدت أن أسافر عبره إلى فلسطين، أي طريق الساحل إلى الناقورة ومن ثم إلى حيفا ويافا، لم يكن سالكاً بسبب سقوط مدينتي حيفا ويافا في ذلك الوقت بيد العدو، وكانت تلك هي المرة الأولى التي أسافر فيها إلى فلسطين عن طريق الأردن. وصلت في ساعة متأخّرة من الليل إلى مدينة اللد حيث كان الأهل قد اضطروا إلى الرحيل عن يافا والعودة إلى اللد، المدينة التي ولدت فيها والتي كنا جميعاً نعتبرها مدينتنا الأصلية. وقد فوجئ أهلي بوصولي، إذ كانوا يتوقعون مني البقاء في بيروت. وفي الأيام الأولى من وصولي إلى اللد فكرت في أنه لا بد من عمل أي شيء للدفاع عن الوطن، ولم أكن حينذاك قد تدربت على استعمال أي نوع من السلاح، لهذا قررت أن أعمل في مستوصف في المدينة لتلقي حالات الإسعاف الأولي. وما زلت أذكر أنه في الليالي الأولى من وصولي إلى مدينة اللد كنت أسمع، وأحياناً أرى، الرجال الذين يحملون البنادق ويتوزعون للدفاع عن المدينة وفي بعض الليالي يقومون بالهجوم على بعض المواقع المعادية، تلك التي تقع بين اللد وتل أبيب أو بعض المستوطنات. وبوجه عام كانت معنويات الناس مرتفعة رغم سقوط حيفا ويافا وبعض المدن الأخرى من فلسطين. كان أهل اللد معروفين بشجاعتهم وعنادهم ووطنيتهم، وكان يقال إن اللد هي العاصمة الثامنة بعد العواصم العربية السبع في تلك الحقبة. ولكنْ، يوماً بعد يوم، كنت أشعر، وكذلك يشعر أهل المدينة، بأن الطوق يشتدّ عليهم. وكان الناس يعلّقون الآمال على الجيوش العربية لإنقاذ الموقف؛ وكان الجيش العربي الأردني قد وصل إلى أطراف مدينة اللد. وبدأ الجو يحتدم بصورة ملحوظة بعد وصولي إلى المدينة ببضعة أسابيع. وفي إحدى الليالي حصلت غارة جوية وأحدثت الفزع في النفوس وبدأت المدينة تعيش حالة اضطراب غير مسبوق.
حين بدأت أفواج اللاجئين تصل إلى لبنان من شمال فلسطين، كان يجن جنوننا ونتابع الخروج بالتظاهرات مطالبين بدخول الجيوش العربية إلى فلسطين


تكرّرت مثل هذه الغارة الليلية في الليالي التالية، وما زلت أذكر أنه مع تكرار الغارات من ناحية، وخسارة بعض المعارك التي كان يخوضها المجاهدون من ناحية ثانية، ثم إدراك الناس أن الجيش العربي الأردني الموجود في أطراف المدينة لا يحرّك ساكناً، من ناحية ثالثة، بدأت معنويات أهل المدينة تهتزّ. لكني ما زلت أذكر أيضاً بعض الأصوات والأشخاص الذين كانوا ينادون بالصمود حتى النهاية ويرون أن هناك طابوراً خامساً للعدو يستهدف إثارة الرعب في نفوس الناس. وكان هذا الفريق الصامد يتصدّى لأية محاولة هروب من المدينة، ويقوم بإرجاع أية عائلة هاربة، إلى أن حصل الهجوم الكبير الذي استهدف إسقاط مدينة اللد. ومع اشتداد الهجوم ازدادت البلبلة والإشاعات والحيرة والنقمة على الجيوش العربية التي لم تستطع أن تفعل شيئاً والتي اتّهم الناس ملوكها ورؤساءها بأنهم باعوا البلاد. وكانت النقمة كبيرةً على الجيش الأردني وعلى الأمير عبد الله لتهاونهما وعدم القيام بواجبهما في الدفاع عن الأرض. ولما كان المستوصف الذي أعمل فيه يقع في أطراف المدينة فقد اضطررنا إلى أن ننتقل مع طبيب المستوصف، وكان اسمه الدكتور مصطفى زحلان، إلى مستوصف آخر في وسط المدينة على بعد خطوات من كنيستها وجامعها وهو مستوصف للبعثة الإنجيلية التي كانت تعمل في مدينة اللد منذ سنوات.
كانت حالة المستوصف عند اشتداد الهجوم وبدء دخول عصابات الهاغانا إلى المدينة في حالة يرثى لها، من حيث عدم توافر المستلزمات الطبية والعدد الكافي من الأطباء والممرضين والممرضات. كانت كل الإصابات تنقل إلى هذا المستوصف الضعيف الإمكانيات. وفي القاعة الرئيسية للمستوصف ما زلت أسمع صوت امرأة شابة بدينة أصيبت برصاصات في جسمها ورصاصة في منطقة المعدة، ما زلت أسمعها تنادي «بدي مَيّْ يمّا اسقوني مَيّْ، دخيلكم!» كذلك ما زلت أرى في تلك القاعة شاباً يافعاً في العشرين من العمر ممدداً بعد أن أسلم الروح؛ أذكره جيداً لأني كنت قبل أيام أراه يسرع وبخطى حثيثة حين كان البلد يتعرض لأي هجوم قبل الهجوم الكبير. شعرت في ذلك الحين وكأننا في يوم القيامة فعلاً.
لم تكن قدراتي الطبية في ذلك الوقت تمكّنني من إجراء أية عملية جراحية، فلم يكن بمقدوري إلا تلبية طلبات محدّدة يطلبها مني الطبيب وأقوم قدر الإمكان برفع معنويات المصابين وأهاليهم ودعوتهم إلى الصبر، إلى أن أدركنا أن الجنود الإسرائيليين أصبحوا على أبواب المستوصف وقد أعلمونا بذلك وطلبوا منّا أن نبقى داخل القاعة المغلقة. ما زلت أذكر ما كنت أقوله بيني وبين نفسي وما كنت أهيئ نفسي لأقوله عند دخول أي جندي أو ضابط إسرائيلي، كنت أريد أن أصرخ في وجوههم، «ماذا تريدون أيها المجرمون؟ هذه بلادنا وسنبقى هنا مهما فعلتم». كلام طويل وخطابات كنت أهيئها بيني وبين نفسي لأقولها بوجه المغتصبين حين يقتحمون المستوصف، وقد طال انتظاري ولم تحصل مثل هذه المواجهة في الليلة الأولى. وفي صباح اليوم التالي أتت إلى المستوصف امرأة مسنّة من أقربائي وهي خالة أمي، فأخذتني على انفراد وقالت لي: «إن أختك المريضة قد توفيت!». كانت أختي الكبرى، وكنت أكنّ لها مشاعر حميمة وخاصة. كانت متزوجة ولديها سبعة أولاد من ذكور وإناث، لذلك كان سماعي خبر وفاتها صدمة كبيرة لي. تركت المستوصف مع قريبتي إلى بيت أختي. كانت أصوات الرصاص قد هدأت نسبياً عما كانت عليه في اليوم السابق، رغم سماع بعض الطلقات بين وقت وآخر. في الطريق رأيت الكثير من الجثث، أذكر منها تحديداً جثة الرجل الذي كان يبيعنا الفول على باب المدرسة. كانت مشاهد مؤلمة من الصعب تحمّلها. فحقيقة لم أكن أدري إن كان ذلك حلماً أم كابوساً مخيفاً أم أنها الحقيقة المرّة بعينها. حين وصلت إلى بيت أختي وجدت أن أهلي كانوا قد دفنوا الجثمان في حديقة المنزل لأنه لم يكن بالإمكان دفنها في مقبرة المدينة، نظراً إلى كثافة القصف العشوائي، وكانوا قد حاولوا إقناع الكاهن بالمجيء إلى البيت للقيام بمراسم الصلاة والدفن، لكنه رفض ذلك خوفاً من الرصاص.


بعد ساعات من حضوري إلى البيت جاء الجنود الإسرائيليون مدججين بالسلاح طالبين منا الخروج بسرعة. وحين سألناهم «إلى أين؟» لم يجيبوا، كانوا فقط يصرون على ضرورة إخلاء البيت فوراً وبأسرع وقت وترك كل شيء وعدم أخذ أي شيء معنا أبداً. حين خرجنا من البيت وجدنا أن الجيران وسكان الحارة بأكملها يغادرون بيوتهم ويسيرون باتجاه ما يشير إليه الجنود الإسرائيليون الذين كانوا يقفون على الطريق بمسافات محددة كي يضمنوا توجه الناس في الاتجاه الذي كانوا قد رسموه لخروج جميع أهل المدينة. فوجدنا أنفسنا نسير باتجاه الطريق الذي يؤدي بنا إلى خارج المدينة. كنت أنوي بطبيعة الحال أن أعود إلى الخدمة الطبية في المستوصف، لكن حين أتى الجنود الإسرائيليون وطردونا من البيت رأيت أن أساعد أهلي للعناية بأولاد أختي، حيث كان مرض التيفوئيد قد أخذ ينتشر في ذلك الوقت، وخصوصاً أننا لم نكن ندرك ما هو هدف إخراجنا الجماعي من بيوتنا. كنا نظن على الأرجح أنهم يريدون تجميعنا في البيادر أو في مكان ما ليعطونا التعليمات بشكل جماعي أو ليقوموا بتفتيش بيوتنا من دون أي رقيب ثم نعود بعد ذلك إلى البيوت، إذ لم يكن يخطر ببالنا مطلقاً أن يكون الهدف هو طردنا بالكامل من بيوتنا وأوطاننا واقتلاعنا من الجذور.
حين أوشكنا أن نصبح خارج المدينة، بدأ بعض الجنود الإسرائيليين يقولون: «اذهبوا إلى الملك عبد الله، فهو المسؤول عنكم». وأذكر أنه في المحطة الأخيرة للجنود الإسرائيليين كانوا يُوقفون الناس ويفتشونهم بدقة ويسلبونهم كل ما يملكون، كما أذكر تحديداً ابن جيراننا أمين حنحن، الذي كانت داره ملاصقة لدارنا، ولدى تفتيشه من جانب الجنود وجدوا معه مبلغاً من المال فحاولوا أن ينتزعوه منه. حينها شدّ أمين يد الضابط في محاولة لاسترداد ماله فما كان من ذلك الأخير إلا أن وجَّه المسدس إلى صدره وقتله على الفور!
وما أذكره أثناء وجودي في المستوصف، بعد احتلال الجنود الإسرائيليين للمدينة، أن عدداً كبيراً من الرجال لجأوا إلى المسجد المجاور. وفجأة سمعنا إطلاق رصاص كثيفاً، علمنا حينها أن أحد الشبان الفلسطينيين قد ألقى قنبلة على سيارة عسكرية فما كان من الجنود الإسرائيليين إلا التوجه إلى المسجد والانتقام من الناس الأبرياء الذين تجمعوا فيه ظناً منهم أنه لا يمكن أن يكون هناك من يجرؤ على قتل الناس وهم في بيت الله.

* * * * * * *
في النهاية، أصبحنا خارج حدود مدينة اللد. كان يوماً حارّاً من أيام تموز/يوليو تحديداً، فقد سقطت اللد في الحادي عشر من تموز/يوليو عام 1948، كما سقط فيها خمسمئة شهيد. كنا في شهر رمضان، وكان الرجال الذين يعرفون الطريق يسيرون باتجاه أول محطة يستطيعون الإيواء إليها ليستريحوا فيها. وما زلت أذكر حرارة ذلك اليوم والعطش الشديد الذي بدأ الجميع يشعر به على نحوٍ يصعب عليّ وصفه. كان الأطفال بوجه خاص يبكون ويصرخون طالبين الماء، وأذكر اسم صديقين كانا يرافقاني أثناء تلك الرحلة الشاقة المضنية، وهما خليل دهمش وعبد الجواد حسونة، الذي كان يتمتع بروح النكتة حتى في مثل هذه الظروف القاهرة! وحين كان يحاول أي إنسان أن يقف ليستريح يجد من أهله من يحثّه على متابعة السير إلى حين الوصول إلى أول مكان يمكن التوقف فيه والبقاء فيه ولو مؤقتاً. بعض الشيوخ لم يعودوا قادرين على متابعة السير بأي حال، وكان بقية أهلهم يضطرون إلى تركهم ومتابعة السير. وما زلت أذكر أن الكثيرين ماتوا أثناء عملية السير هذه، ومن هؤلاء الناس الذين قضوا نحبهم امرأة هي أخت أمين حنحن ابن جيراننا الذي قُتل على يد الضابط الإسرائيلي.
لا أعتقد أن أحداً يستطيع أن يصف بدقة مقدار المعاناة الإنسانية التي عشناها أثناء خروجنا من اللد. وحين اقترب المغيب، أتى من يقول إننا أصبحنا قريبين من بئر يمكن أن نجد فيها قليلاً من الماء. بدأت ومجموعة من الأصدقاء نركض نحو البئر، وحين بلغناها وجدناها ملأى بالقاذورات، ومع ذلك لم تقوَ إراداتنا على الامتناع عن تناول تلك المياه، فأخذنا نشرب منها رغم قذارتها، وأخرجنا مناديلنا وبللناها بالماء وحملناها إلى أهالينا لكي يطفئوا بها ظمأهم إلى حين وصولهم إلى البئر. بتنا في تلك الليلة في قرية اسمها نعلين، وفي اليوم التالي تابعنا المسيرة إلى أن توقفنا عند بلدة بير زيت، حيث شعرنا أن في إمكاننا البقاء هناك بانتظار ما سيحدث، إذ لم يكن أحد منا يتصوّر أن الناس سيبقون خارج مدنهم وبلداتهم لمدة طويلة. في تلك الفترة ولبضعة أسابيع كنا نفترش الأرض من دون أي تجهيزات، ثم وجدنا بيتاً في رام الله وسكنّا هناك لفترة من الوقت.
كان الجميع يعتقد أننا سنعود خلال أيام أو أسابيع إلى بيوتنا من جديد، سواء عن طريق الجيوش العربية أو عن طريق هيئة الأمم المتحدة. ولم يتصور أحد في حينها أن الأيام والأسابيع المنتظرة ستتحول إلى رحلة طويلة تجاوزت الستين عاماً لم يتوقف فيها شعبنا يوماً عن تقديم التضحيات الجسيمة. إنها رحلة من العذاب والمعاناة ما زالت مستمرة تطوي بين صفحاتها الشهداء يوماً بعد يوم، وما زالت حرارة ذلك اليوم الشديد القيظ من شهر تموز/يوليو تسكن ذاكرتي، وبيتنا الذي تركته في اللد بالأمس القريب ما زال ينتظر عودة أهل الدار.
بعد مرور سنوات على رحلتنا المأسوية وخروجنا من اللد، قرأت كتاباً لكاتبة بريطانية، قصة اسمها «الطريق إلى بئر السبع‏»i. وكأن هذه الكاتبة كانت معنا في رحلة خروجنا. لا يكفي أن أقول إنني لم أجد أية مبالغة في ما كتبته تلك الروائية البريطانية، بل أستطيع القول إن المأساة كما عشتها كانت أكثر حدة مما أظهرته تلك الرواية.
في رام الله رحت أقصد يومياً مقهى قريباً من مقر إقامتنا لأستمع إلى نشرات الأخبار، لعلي أسمع خبراً يتناول موضوع عودتنا إلى بيوتنا، فلم نكن نتخيل أن نبقى في هذا الوضع إلى وقت طويل. ولا أدري لماذا ما زلت أذكر من تلك الأخبار التي كنت أسمعها في تلك الفترة، خبراً لا يزال ماثلاً في ذهني حتى هذه اللحظة، يقول إن دايفيد بن غوريون، رئيس وزراء إسرائيل في ذلك الوقت، صرّح بأنه يتوقع ويأمل أن يصبح عدد السكان اليهود في «دولة إسرائيل» أربعة ملايين نسمة في عام 1952، أي في غضون أربع سنوات. كان عدد اليهود في فلسطين عام 1948 لا يتجاوز السبعمئة ألف يهودي، لذلك بدا تصريح بن غوريون مذهلاً وغريباً في ذلك الوقت. فكم كان يدل ذلك التصريح على مدى الطموح ومدى الأطماع والمخطّطات التي كان يضعها قادة الصهيونية منذ ذلك الوقت بل وقبل ذلك كثيراً.
كان السؤال الذي يحيِّرني في تلك الحقبة، أي في صيف عام 1948، هو ماذا عن متابعة دراستي الجامعية؟ إذ لم أكن في وضع يمكنني معه التفكير في متابعة دراسة الطب، ليس لأسباب مادية، إذ كنت قد حصلت على منحة جامعية نتيجة تفوقي في الدراسة من المعهد البريطاني في بيروت، الذي كان يقدم مثل هذه المنح للمتفوقين في الجامعة من الفروع كافة. لكن ترددي وحيرتي كانا ناجمين عن شعوري بعدم قدرتي على الدراسة، فكيف أستطيع متابعة الدراسة؟ هل أستطيع أن أنكبَّ على دراستي ساعات، أو حتى بضع دقائق، كما كنت أفعل في السنة الدراسية السابقة، وأحصل على علامات متفوقة؟ ولكن والدتي وأهلي كانوا يصرون على ضرورة متابعتي الدراسة، ويقولون لي: «ما الذي تستطيع أن تفعله إن لم تكمل دراستك الجامعية؟» وبالفعل، لم أكن امتلك جواباً عن هذا السؤال، فلم يكن هناك في تلك الفترة تنظيمٌ أو مؤسسة تمتلك الرد على السؤال الذي كان يحيرني ويحير الآلاف من الشباب الفلسطيني، وهو ما العمل؟ وما الذي نستطيع أن نفعله بعدما أقيمت دولة إسرائيل بالقوة؟
من هنا وجدت نفسي مضطراً إلى السفر إلى بيروت من جديد والالتحاق بالسنة الدراسية في الجامعة الأميركية. وكنت قد انتُخبت في السنة الدراسية السابقة نائباً لرئيس جمعية العروة الوثقى، فرأيت في ذلك ميداناً مفتوحاً أمامي للعمل والتفكير والتعبير عما يدور في نفسي وفي نفوس جميع الشباب الفلسطيني والعربي من شحنات الغضب التي تحرق النفوس.

المراجع
Ethal Mannin, The Road to Beersheba (London: Hutchinson, 1963).

* الحلقة السابقة:
«الأخبار» تنشر فصولاً من مذكّرات حكيم الثورة [1/4]