يختزل الشارع الرئيسي للعاصمة، الذي يحمل اسم الحبيب بورقيبة، أول رؤساء البلاد، صورة ما يحصل. على امتداد الأعوام الماضية، صار الشارع ينقسم إلى مربعات سياسية صبيحة ذكرى هروب زين العابدين بن علي. يحتفل أنصار السلطة، وخاصة قواعد حركة «النهضة»، التي لم تفارق العمل الحكومي إلا قليلاً، ويندد أنصار المعارضة والنقابات بالوضع الذي يعتبرونه غير متلائم، مع ما حملته الثورة من آمال ومطالب.يتقاذف الطرفان الاتهامات بالتسبب في التدهور الاقتصادي. يرى أنصار السلطة أن التظاهرات والاعتصامات والإضرابات، ورفض «الإصلاحات» من قبل المعارضة والنقابات، هي من «تضع العصا في عجلة التنمية». هنا، ينقسم هؤلاء على أنفسهم؛ فبينما يعتبر مساندو حركة «النهضة» أن دوافع ذلك تكمن في العداء الأيديولوجي، الذي يكنّه لهم اليساريون، يعتبر الليبراليون مساندو «نداء تونس»، أو الوزراء «التكنوقراطيون»، أن الأمر مرتبط برفض نفس اليساريين للإصلاحات الليبرالية، التي تفتح السوق أمام المنافسة الحرة (هنا يشمل مصطلح اليساريين كل من يرفض حصر دور الدولة في تنظيم الاقتصاد، ويدافع عن أدوار أكبر لها).
يمكن شرح هذا الخلاف عبر مشهد صغير حصل في الأيام الماضية. اجتاحت موجة برد منطقة الشمال الغربي الجبلية، وهو أمر يحصل بصفة متواترة، فوجّه رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، وزراءه لزيارة المناطق المتضررة، وتوزيع إعانات على السكان. أثناء زيارته لمنطقة عين دراهم، واجه السكان وزير أملاك الدولة برفض الإعانات، وطالبوه بتوفير مواطن شغل بدلاً منها. هؤلاء الناس، في عرف الليبراليين المتصدرين للمشهد، خاملون لا يبحثون عن عمل، في حين أنهم محاطون بغابات لا تصلح للزراعة، إلا في حدود ضيقة، وتفتقد منطقتهم بنى تحتية تسهم في جلب مستثمرين خواص، وحتى المنشأة الوحيدة في الإقليم القادرة على فتحهم على العالم الخارجي، وهي مطار طبرقة، لا تعمل إلا لفترات متقطعة، خاصة لرحلات العمرة والحج، رغم أنها قطب سياحي مفتوح على البحر. هل يمكن لغير الدولة إنشاء بنى تحتية واستثمارية في مثل هذه المناطق؟ تختلف الإجابات، لكن المؤكد أن الحكومات الليبرالية لم تنجح في ذلك خلال ثمانية أعوام.
يحاول السبسي إرجاع بعض البريق إلى «نداء تونس» رداً على برنامج الشاهد


بعيداً عن المعدمين الذين يفتقرون إلى أطر تنظمهم، بما يؤدي إلى أن تكون ردود فعلهم قصووية في الأغلب: إما احتجاجات عنيفة، أو انبطاح مذل لأصحاب السلطة والنفوذ، تدافع الطبقة الوسطى عن مصالحها بأدوات أخرى. قبل أيام، ألغت «النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين» إضراباً عاماً كان مقرراً ليوم أمس، وذلك بعد توصلها إلى اتفاق مع الحكومة، يقضي برفع الأجور وامتيازات أخرى، لكن الأمر يشمل في أغلبه صحافيي القطاع العام. في موازاة ذلك، نشر «الاتحاد العام التونسي للشغل»، أمس، تراتيب الإضراب العام في الوظيفة العمومية، المقرر ليوم الخميس، بعد فشل المفاوضات مع الحكومة، حول الترفيع في الأجور.

حسابات الانتخابات
عملياً، بدأت الأحزاب بالاستعداد للانتخابات الرئاسية والتشريعية، التي ستنظم بعد أشهر، فيما بدأ فاعلون آخرون بالعمل على مشاريع سياسية جديدة. أبرز ما يدور الآن هو انطلاق حزام محيط برئيس الحكومة في تنظيم اجتماعات تمهيدية، يُفترض أن تفضي إلى تأسيس حزب جديد. لا تزال ملامح هذا المشروع غير واضحة، لكن الخطوات الأولى له كانت استقطاب قياديين ونواب من حركة «نداء تونس»، ويبدو أن الخطوات المستقبلية ستكون في اتجاه محاولة دمج بعض الأحزاب والشخصيات التي تطلق على نفسها صفة «الوسطية»، التي لا تعني غير التمايز عن الإسلاميين واليسار، وتبني برنامجاً لا يبتعد كثيراً عن السائد حالياً.
رداً على برنامج يوسف الشاهد، يحاول رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، إرجاع بعض البريق إلى حركة «نداء تونس»، التي أسّسها وقادها إلى انتصار إنتخابي عام 2014، وصار يقودها الآن نجله. ضمن هذا المسعى، حاول الرجل، أمس، في خطاب بمناسبة افتتاح معرض حول الثورة، أن ينسب إلى شخصه دوراً بطولياً، من خلال ادعائه «إنقاذ الثورة من الإنزلاق في حمام دم». لكن «نداء تونس»، بعيداً عما كان عليه أيام زعامة قائد السبسي، اليوم، يعجز زعيمه، حافظ، عن صياغة خطاب أو برنامج مقنع، وخاصة أنه لم يظهر قط في برنامج متلفز، ولم يلق أيّ خطاب عام، كما لم يعد أمينه العام الجديد، سليم الرياحي، من لندن منذ أكثر من شهر، ويشاع أن الرجل لن يعود، وما كان انضمامه إلى «النداء»، ودمج حزبه فيه، إلا في إطار صفقة اُسقط بموجبها عدد من القضايا المرفوعة بحقه.
أما اليسار، ممثلاً في تحالف «الجبهة الشعبية»، فيحاول جاهداً تأطير الاحتجاجات الشعبية، وخلق زخم حوله. أطلقت «الجبهة» في الفترة الماضية حملة «يزي – Basta»، ويحاول قياديون التواصل مع المحتجين، وإقامة صلات معهم، لكن لا أثر ملموساً لذلك خارج قواعدها التقليدية، وفق نتائج سبر الآراء. هذه الأخيرة، ورغم ما يُوجه من نقد للشركات المنظمة لها، تشير إلى محافظة حركة «النهضة» على نواة صلبة من الداعمين، لم تهتز إلا قليلاً، رغم مشاركتها في الحكم. ويبدو أن «النهضة» مقبلة على خطوة غير مسبوقة، وغير معلومة العواقب، حيث أعلنت أنها مهتمة بالانتخابات الرئاسية المقبلة، على عكس ما حصل في الماضي. ورغم عدم إعلان رئيسها، راشد الغنوشي، نيته الترشح، إلا أن تكثّف تحركاته في هذا الاتجاه، إضافة إلى تصريحات بعض القياديين، تجعل ترشّحه أمراً شديد الاحتمال.