يمكن الجزم بأن المنخفض الجوي «نورما»، الذي سيطر على لبنان مطلع هذا الأسبوع، لم يرقَ الى أن يسمّى عاصفة بالمعنى المتعارف عليه، ولا كما روّجت له وتخيّلته وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي. كما يمكن الجزم بأن العواصف الحقيقية ــــ الآتية حتماً بسبب التغيرات المناخية الإنسانية ــــ ستكون أعنف وأقوى من هذه العاصفة الأقل من عادية، لجهة سرعة الرياح وتدني درجات الحرارة وحجم المتساقطات وتراكم الثلوج... والأهم أن ما يمكن الجزم به، أيضاً، بعد هدوء «نورما»، أن الأضرار والخسائر البشرية والمادية للعواصف المقبلة ستكون، للأسف، أعلى بما لا يقاس في ظل الهشاشة التي أظهرها البلد هذا الأسبوع، والتي كشفت سوء التخطيط المدني، وسوء التخطيط لإنماء القرى بشكل متكامل (وغير متوازن)، بما ينبغي معه إعادة النظر في كل هذه السياسات وغيرها، تحسباً للعواصف الأعظم الآتية حتماً؟ولعل من «محاسن» الصدف أن قدوم «نورما» تزامن مع تعثّر تأليف الحكومة ليكشف أن من يمضي الشهور بالخلاف على طائفة وزير، بدل الخلاف على كفاءته أو على برامج عمل الحكومة، يحصد فوضى في المعايير وفي المناخ، نتائجها أكثر قسوة من أي جنون في عواصف الطبيعة.
المطلوب مساءلة وزارة الأشغال على غياب خطة للنقل العام وليس على التقصير في فتح الأقنية والمجاري


ورغم ضعف «العاصفة» الأخيرة، يمكن تسجيل ملاحظات عدة على أداء السلطات المعنية ونوعية الإجراءات الوقائية (التي كانت مطلوبة). ولعل أولها أن «من يزرع الباطون والزفت يحصد الفيضان»، وخصوصاً إذا ترافق ذلك مع تناقص مستمر في المساحات الخضراء بسبب قلة التخطيط وعدم احترام المبادئ الاستراتيجية للتنظيم المدني. فالاهتمام بالمخطط التوجيهي العام لترتيب الأراضي، الذي لم يتم تطويره ولا ترجمته بمراسيم تنظيمية، يمكن أن يشكل عنصراً مهماً في الإجراءات الوقائية، لما للأشجار من دور أساسي وحاسم في حماية التربة من الانجراف والأنهر من الفيضانات، فضلاً عن حماية الأراضي الزراعية من هجمة العمران، وقمم الجبال وضفاف الأنهار والشواطئ من الاعتداءات على أنواعها، ولا سيما المشاريع الكبرى (الخاصة) المصنفة «سياحية». وهذه باتت تشكّل تهديداً أكبر من المشاريع الزراعية التقليدية ومن الاعتداءات الفردية لأهالي القرى. أضف الى ذلك الإجراءات المتعلقة بحفظ مصادر المياه، وإعادة النظر في كل مشاريع السدود وقطع مجاري الأنهر، وفي كل مشاريع ما يسمى «التنمية» و«التطوير العقاري»، والتراجع نهائياً عما يسمى «تسوية مخالفات البناء» بكل أشكالها.
كما تفترض أي إجراءات وقائية إعادة النظر في سياسات النقل وفي ما يسمى «تطوير البنى التحتية». فزيادة الطرق وتوسيعها وبناء الجسور والأنفاق الى ما لا نهاية، تنفيذاً لسياسة قاتلة تقوم على تشجيع استخدام السيارات الخاصة بدل تطوير النقل العام، لن نحصد منها إلا مزيداً من زحمة السير وتلوث الهواء، ومزيداً من السيول وغرق السيارات والمارة والاختناق المروري. وهذا يتطلب إعادة النظر في دور وزارة الأشغال والنقل ومهامها واستراتيجياتها. إذ لا يمكن الاكتفاء بمحاسبة الوزارة على التقصير في فتح الأقنية على الطرقات الرئيسية والعامة (وهو ما تتنصل منه بسهولة وترميه على البلديات العاجزة)، بل محاسبتها على سياسة النقل التي انحازت تاريخياً، ومنذ أن سمحت بسيطرة الزفت على خطوط السكك الحديد، لمصلحة تجار السيارات الخاصة بدل الانحياز لفكرة تطوير النقل العام.
وبالتوازي، تنبغي محاسبة مجلس الإنماء والإعمار الذي ادّعى طويلاً أنه يمكن أن يشكل بديلاً من وزارة التخطيط، ومن وزارة البيئة (التي تقاعست عن إنجاز مهمة تاريخية بوضع استراتيجية للتنمية المستدامة تربط كل القطاعات من ضمن رؤية تحمي الموارد وتحفظ ديمومتها وتستبق الكوارث وتضع الأطر لإدارتها...)، فاستباح طبيعة لبنان بمشاريعه غير المدروسة وغير المتكاملة في كل المجالات، وهي المشاريع التي بدأنا نحصد فيضاناتها اليوم.
هذه، وغيرها الكثير، لم تأخذ، للأسف، حصتها من الاهتمام الاستثنائي مع الحكومات المتعاقبة، ولا كانت في خلفية المفاوضات «الضارية» الدائرة منذ أشهر في الصراع المستميت على تقاسم الحصص لتأليف الحكومة الجديدة!