وفي أعقاب اختتامه جولة محلية قادها والده الملك سلمان، وأخذته الأربعاء الفائت إلى منطقة الحدود الشمالية للمملكة، حيث تمّ تدشين مشاريع جديدة بتكلفة تقارب 23 مليار دولار، كسر ولي العهد حالة الجمود تجاه الخارج، مُدشّناً ذلك بزيارة لأقرب حلفائه الذي ظلّ حتى وقت قريب دافناً رأسه في الرمال تحسّباً لما يمكن أن تؤول إليه قضية خاشقجي، حتى إنه عندما زار السعودية أخيراً بشخص ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، آثر أن لا يلتقي ابن سلمان علناً تلافياً للقيل والقال. لكن، مع البيان الصادر عن البيت الأبيض قبل أيام، والتصريحات التي أعقبته على لسان ترامب، بدا أن الأخير أعطى إشارة تزخيم العمل على طيّ القضية، بدعوى «(أننا) إذا اتبعنا معايير معينة، فلن يتبقّى لدينا حلفاء من أي دولة تقريباً». توجّه أعلنت تركيا، أمس، على لسان وزير خارجيتها مولود جاويش أوغلو، معارضتها له، معتبرة أن تصريحات الرئيس الأميركي تظهر أنه سيغضّ الطرف عما حدث مهما كانت حقيقة الأمر، واصفة هذا بأنه «ليس النهج السليم. الأموال ليست كل شيء». إلا أن جاويش أوغلو عاد ليقول «(إننا) لا نستطيع اتهام شخص واحد دون دليل قاطع. هذا ليس صائباً»، مستدركاً بأن قول ترامب إن ابن سلمان ربما كان على علم وربما لا، «بدا مثيراً بالنسبة إلينا».
ترامب: لولا السعودية لكانت إسرائيل في ورطة كبيرة
ترفض أنقرة إذاً اتهام ولي العهد علناً وكشف الأوراق التي تدينه أمام الرأي العام، لكنها في الوقت نفسه تستنفر كلّما لمحت واشنطن أو صرّحت بأنها لن تصغي بعد اليوم لدعوات معاقبة السعودية، ما يوحي بأن الأتراك يريدون إبقاء الواقعة مادة للأخذ والرد حتى يحصلوا منها على ما يريدون. ولعلّ إعلانهم إمكانية انعقاد لقاء بين إردوغان وابن سلمان في بيونس آيرس على هامش قمة العشرين يشكّل دليلاً إضافياً على أن موقفهم لا يزال قابلاً للكسب من قبل الأميركيين. إذ، وعلى الرغم من أن هذا اللقاء لن يكون الاتصال الأول بين الرجلين منذ اغتيال خاشقجي (سبقته مباحثات هاتفية في الـ 19 من الشهر الماضي)، وعلى الرغم كذلك من أن جاويش أوغلو حاول المشابَهة بين الاتصالين بقوله إن «رئيس بلادنا سيطلع ولي العهد كما فعل من قبل في مباحثاته الهاتفية على أفكارنا ونتائجنا، بما فيها المعلومات والوثائق التي توصّلنا إليها»، إلا أن انعقاد اجتماع على هذا المستوى بين المتهِم، والمتهَم ضمناً في كل التصريحات التركية التي تلحّ على «مسؤولية أعلى المستويات» عن القتل، سيكون له وقعه السياسي والإعلامي الذي سيخفف من وطأة الاتهامات التركية ويهزّ صدقيتها، مع ما يعنيه الأمر من أن خيار التخلّي عن التلويح بعصا أدلة الجريمة والتحقيق الدولي سيكون مطروحاً، وخصوصاً أن أنقرة نفت ــــ للمرة الأولى منذ انطلاق مسلسل التسريبات ــــ حديث صحيفة «حرييت» عن وجود تسجيل لدى الاستخبارات الأميركية يفيد بتوجيه ولي العهد، شقيقه خالد بن سلمان، بـ«إسكات خاشقجي».
مع ذلك، فإن تطلّع الإدارة الأميركية إلى «مرحلة ما بعد اغتيال خاشقجي» وفق ما سمّاها وزير الدفاع جيمس ماتيس، قد لا يكون سهل التحقق، في ظلّ تمسّك أنقرة ــــ إلى الآن ــــ بسرديّتها، وتصاعد الجدل الداخلي في الولايات المتحدة على خلفية موقف البيت الأبيض من الأزمة. وهو جدل دفع ترامب إلى انتهاج شفافية أكبر في الحديث عن حقيقة العوامل التي تجعله متشدداً في الدفاع عن ابن سلمان. عوامل يتصدّرها، إلى جانب «استثمار مئات مليارات الدولارات في بلادنا» وتوفير «فرص عمل هائلة» والمساهمة في خفض أسعار النفط، «ضمان مصالح إسرائيل». «لولا السعودية، لكانت إسرائيل في ورطة كبيرة. ماذا يعني ذلك؟ هل تريدون مغادرة إسرائيل؟». هذا ما قاله ترامب حرفياً، قاصداً من ورائه اللعب على وتر حسّاس في الداخل الأميركي، علّه يستطيع لجم الحملة عليه بعد بيانه المُشكّك في ما خلُصت إليه الاستخبارات. لكن ترامب، على رغم دفاعه الشرس عن ابن سلمان، وتأكيده أنه ماضٍ في هذه المعركة حتى النهاية، أبقى الباب مفتوحاً أمام إمكانية التخلّي عن حليفه في حال آلت القضية إلى تغيّرات في غير مصلحته. وهي تغيّرات لا يزال الملك سلمان ونجله يعملان بجدّ على منع حدوثها، وخصوصاً عبر محاولتهما تظهير علوّ كعب الوالد في تقرير السياسات الداخلية والخارجية. وفي الإطار المتقدم، بدا لافتاً أن الإعلان عن جولة ابن سلمان الخارجية جاء عبر بيان للديوان الملكي، شدد على أنها تأتي «بناءً على توجيه الملك»، في وقت تواصلت فيه الخطوات الدعائية الهادفة إلى تصدير صورة التفاف شعبي حول العهد الجديد، وآخرها لقطات للأمير الشاب مع أطفال في تبوك، وأخرى للملك وهو يتدثّر بالعلم السعودي ويقبّله في عرعر.