الزيارة التي قام بها رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي شارل عربيد، يرافقه رئيس الهيئات الاقتصادية محمد شقير ورئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر، لرئيس الجمهورية ميشال عون، تثير الكثير من التساؤلات عمّا يفعله الاتحاد العمالي إلى جانب أصحاب العمل في معركة يخوضها أصحاب العمل ضدّ مصالح العمال.هذا الأمر لا يجعل من الاتحاد مجرّد دمية يستخدمها من يشاء وفي أي معركة يشاء، بل هناك ما هو أسوأ، إذ تبيّن أن الاتحاد لم يكن على علم بالورقة المقدمة إلى عون، بل يعرف بعضاً من مضامينها من نقاشات دارت في هيئة مكتب المجلس الاقتصادي.
عنوان معركة أصحاب العمل بدا واضحاً من تصريحات شقير قبل هذه الزيارة في حديث تلفزيوني قبل أيام: «هناك خطأ مميت اقتُرف ونحن ندفع ثمنه غالياً، وهو إقرار سلسلة الرتب والرواتب. اليونان أخذت قراراً جريئاً جداً، فقالت إمّا أن نتّجه نحو الإفلاس، وإمّا أن نخفض الرواتب 23% للقطاعين العام والخاص، فأخذت الخيار الثاني وتعافت اقتصاديّاً. يجب اتخاذ قرارت جريئة في لبنان، وهي في حاجة إلى قرار سياسي. أحد أسباب الفوائد العالية وقلة الاستثمار، هو السلسلة».
إزاء مسألة بهذا الوضوح، لماذا يُغفل الاتحاد ما هو معلن ويذهب إلى موعد مدبّر «على عجل» من رجل الأعمال شارل عربيد الذي أُولي إليه (بالسياسة) منصب رئيس المجلس الاقتصادي؟ ولمَ يذهب برفقة رئيس هيئات أصحاب العمل محمد شقير؟ ولمَ يذهب لتقديم ورقة الأحزاب بدلاً من تقديمه ورقته الخاصة التي يفترض أن تحافظ شكلاً ومضموناً على مصالح العمّال؟
ليست الغرابة في تشكيل الوفد، فالاتحاد سلّم نفسه، منذ فترة طويلة، لأصحاب العمل ولقوى السلطة التي تمنحهم الحماية. عند كل مفصل سياسي، كانت هذه الهيئات تضع الاتحاد العمالي العام في جيبها، وتقود حركة اعتراضية تستعمل فيها أدوات التهويل والتخويف من الانهيار. استعملت هذه السياسة في السابق وتستعمل اليوم في ظل ظروف متدهورة. يوم أُقرّت زيادة الأجور في 2012، شكّلت هذه الحماية حصناً منيعاً في وجه أي تغيير في ميزان توزيع الدخل الوطني، ويوم كان هناك فراغ رئاسي رفعت الهيئات شعار «انتخبوا رئيساً حتى يبقى لنا جمهورية»، ويوم كان الصراع على أشدّه بين حركة أمل والتيار الوطني الحرّ، رفعت الهيئات شعار «نداء 25 حزيران»... في شكل أكثر وضوحاً لانضواء الاتحاد تحت كنف أصحاب العمل، شكّلت الهيئات ما يسمى «قوى الإنتاج»، واستعمل العنوان لتنفيذ الكثير من حفلات الترويج والتسويق.
المشكلة تكمن في أن تصل درجة الاستخفاف بالاتحاد إلى حدّ دعوته إلى المشاركة في موعد بعنوان «إبلاغ الرئيس بالأوضاع الاقتصادية السيئة التي تستدعي ضرورة الإسراع في تأليف الحكومة»، فيما يخفي عربيد نيته تقديم ورقة اقتصادية أعدها ممثلو الأحزاب، وتتضمن طروحات ضدّ العمال، لا بل تشير بوضوح إلى أن الأزمة الاقتصادية سببها إقرار سلسلة الرتب والرواتب!
شقير لم يكن كتوماً جداً، بل فاتح الرئيس عون بالأمر مباشرة. تحدث عن ضرورة التراجع عن السلسلة من أجل إنقاذ الاقتصاد. عندها فقط ردّ الأسمر بالقول إنه بين 2012 و2017، أي في وقت لم تكن فيه السلسلة قد أقرّت، زاد الدين العام بقيمة 20 مليار دولار.
على خلفية هذا النقاش جرى تلاسن بين الطرفين، ما دفع الرئيس إلى سؤالهما عمّا إذا كانوا قد تحدثوا إلى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، عن هذا الأمر.
في الواقع، إن سلامة انضم منذ فترة إلى جوقة المطالبين بوقف مفاعيل كلفة السلسلة، بحجّة أنها سبب التضخم الذي يولّد ضغوطاً على سعر صرف الليرة مقابل الدولار. وقال منذ يومين في مؤتمر «منتدى الاقتصادي الاجتماعي الأول لبكركي»: إن «عجز المالية العامة الذي ارتفع بعد إقرار سلسلة الرتب والرواتب يجب أن تموله الدولة… هذه الوقائع تتطلب أن تكون هناك حركة إصلاحية تسهم في تصغير حجم القطاع العام الذي بات عبئاً كبيراً على الاقتصاد».
الأمر نفسه يردده رئيس جمعية مصارف لبنان جوزف طربيه، في لقاءاته مع الإعلاميين. كلّهم يروّجون أن السلسلة هي المشكلة!
في المقابل، هناك الكثير من الوقائع المنشورة والمعلنة، سواء في لقاءات سلامة مع المصارف أو في لقاءاته الخاصة، تشير بما لا يرقى إليه شكّ، إلى أن تضخّم الأسعار بشكل أساسي يعود إلى ضخّ الكثير من القروض السكنية التي لم تسهم في تعزيز النمو الاقتصادي كما روّج له منذ خمس سنوات إلى اليوم، بل ضخت مليارات الدولارات كقروض مدعومة، وتبين لاحقاً بإقرار سلامة أنها ترفع الطلب على الدولار.
لماذا يُغفل الاتحاد ما هو معلن ويذهب إلى موعد مدبّر «على عجل» من رجل الأعمال شارل عربيد


ورغم انبطاح قيادة الاتحاد العمالي العام أمام أصحاب العمل والسياسيين، إلا أن ردّ الأسمر على شقير جدير بالاهتمام: ألم يزد الدين العام خلال فترة ما قبل السلسلة؟ لمن ذهبت الأرباح الناتجة من هذه الزيادة في الدين؟ ألم تصبّ أرباحاً مباشرة في جيوب المصارف؟
اللافت أن البنك الدولي الذي يُعَدّ أحد الأطراف المعادية لمصالح العمال، يؤيد فكرة أن حصّة أجور القطاع العام من الناتج المحلي الإجمالي في لبنان، لا تعد كبيرة. والأغرب أن البنك يركّز على مشكلة الكهرباء التي تستنزف موارد الخزينة بصرف النظر عن تبنّيه خصخصتها كعلاج. لكن لماذا هذا الانتقال من التركيز على الكهرباء في فترة ما قبل سيدر، إلى الحديث عن رواتب وأجور الموظفين في القطاعين العام والخاص؟
الهدف بحسب مصادر مطلعة واضح، وهو أن أصحاب العمل يحاولون استباق أي طرح يتعلق بمطلب زيادة الأجور في القطاع الخاص، وهم تمكنوا من إحباطه خلال السنوات الأخيرة، وصولاً إلى انعدام الحديث عنه حالياً. كذلك فإن أصحاب العمل يسعون بشكل غير مباشر إلى تدمير نظام التقاعد في القطاع العام، وهم يرون أن «إصلاحه» أمر ضروري من ضمن إعادة هيكلة بنية الدولة وماليتها. كذلك يحاول أصحاب العمل أن ينتزعوا وعداً من السياسيين بتجميد الأجور في القطاع العام حتى يجري امتصاص الأثر التضخمي لكلفة السلسلة، وهذا الأمر قد يمتد من خمس سنوات إلى عقود، تماماً كما حصل مع تجميد الأجور في القطاع الخاص من عام 1996 حتى 2008.
أما الخوف الأكبر، فمِن أن يستسهل موظفو القطاع العام مقايضة أجورهم الحالية بمعاشاتهم التقاعدية.