إسطنبول | على توقيت أزمتها الاقتصادية، سارعت تركيا إلى تقليص الخلافات مع ألمانيا، بوابتها، لوصل ما انقطع مع الأوروبيين. خلافات تصاعدت في السنوات الأخيرة على خلفية ملف اللاجئين وبلغت ذروتها مع محاولة الانقلاب الفاشلة. حرّكت زيارة إردوغان لبرلين عجلة الشركات الألمانية المتحمسة للاستثمارات، ما يعِد بتعاون تجاري عملاق يشكّك الخبراء في أن يعيد الأمور سريعاً إلى ما قبل 2013. لكن برلين، وإن بدت حذرة، فإنها أعطت التراجع التركي فرصة في سبيل مصالحها التي لا تقل جسامة عن الحسابات التركية.بدا لتركيا وألمانيا أنهما لا يمكنهما التخلي بعضهما عن بعض على المستوى الاقتصادي، على رغم من التوترات السياسية التي سادت علاقاتهما في محطات عديدة في السنوات الأخيرة. بسعادة، رحّب الرئيس، رجب طيب إردوغان، بضيوفه الذين قدموا من برلين، بغض النظر عن اتهاماته القاسية ضد الحكومة الألمانية في معظم خطاباته. وفي خضم الاتهامات بأن ألمانيا تؤوي المشتبه فيهم والمطلوبين في محاولة الانقلاب عام 2016 وتحرّض المقاتلين الأكراد ضد نظام الحكم، ذهب إردوغان لتشبيه المسؤولين الألمان بـ«النازيين»، بينما يحتجز العديد من المواطنين الألمان كرهائن «افتراضية» يمكن استخدامهم كورقة مساومة، مقابل الأتراك الذين يريدهم من ألمانيا. ومع ذلك، أدرك إردوغان أنه بحاجة إلى إصلاح العلاقات مع القادة الأوروبيين إذا أراد استجلاب الأموال لسداد الدين الضخم الذي حملته أنقرة في خضم الأزمة المالية القاسية التي تعانيها أخيراً، ووقف هروب رأس المال الأجنبي وكسر دائرة الأزمة التي تحدق بالاقتصاد التركي. وقد جعلت المستشارة، أنجيلا ميركل، الأمور أكثر سهولة بالنسبة إليه عندما قالت في أيلول/ سبتمبر الماضي إن ألمانيا لديها «مصلحة استراتيجية» في اقتصاد تركي سليم، ما يشير إلى وجهة نظرها بأن استقرار تركيا يجب أن يستمر على الرغم من التشويش السياسي. بالنسبة إلى أنقرة، فإن برلين ليست فقط شريكاً اقتصادياً رئيسياً بل هي أيضاً مفتاح العلاقات مع بقية الاتحاد الأوروبي. وبالنسبة إلى ألمانيا، فإن أي حالة من عدم الاستقرار في تركيا، التي يبلغ عدد سكانها 80 مليون نسمة وبناتج محلي إجمالي قدره 800 مليار دولار، لديها القدرة على التأثير وبشدة في استقرار أوروبا. ترك تركيا في حالة اضطراب ليس بالأمر الذي يمكن الألمانَ أن يخاطروا به.
في أعقاب زيارة إردوغان لألمانيا في أواخر أيلول/ سبتمبر، زار وزير الشؤون الاقتصادية والطاقة الألماني، بيتر ألتماير، تركيا في 25 و26 تشرين الأول/ أكتوبر على رأس وفد يضم 80 شخصاً، من ضمنهم ممثلون للتكتلات الألمانية مثل «SAP» و«Siemens» و«BASF» و«EON». وعقدت لجنة اقتصادية وتجارية مشتركة، تم الاتفاق عليها في عام 2013 كوسيلة لتسريع حل المشكلات، اجتماعها الأول خلال الزيارة، بينما عقد منتدى الطاقة التركي الألماني للمرة الثانية. وأعلن وزير الصناعة والتكنولوجيا التركي، مصطفى فارناك، أن وزارته ستنشئ «مكتباً ألمانياً» خاصاً لحل أي مشاكل تواجه الصناعيين والمستثمرين الألمان. تسعى تركيا، التي تحاول التغلب على مشكلاتها الاقتصادية عن طريق جذب الاستثمارات الأجنبية بدلاً من السعي للحصول على مساعدات من صندوق النقد الدولي، إلى تحديث اتفاق الاتحاد الجمركي لعام 1996 مع الاتحاد الأوروبي، وكسر الجمود الذي يعتري محادثات العضوية مع بروكسل، والحصول على مرور بدون تأشيرة لمواطنيها، وجذب المزيد من الاستثمارات في التكنولوجيا والقطاعات ذات القيمة المضافة العالية، مثل المواد الصيدلانية والمواد الكيميائية وتعزيز التعاون في مجال الطاقة المتجددة. وتأمل أيضاً أن يقدم بنك التنمية الألماني والمقرضون الآخرون المزيد من القروض للمستثمرين الألمان. أثارت الاتصالات التي أعيد إحياؤها التفاؤل بفصل جديد من العلاقات الثنائية. لا شك في أن مجتمع الأعمال يرحب بتصميم الحكومتين على إبقاء العلاقات الاقتصادية بعيدة عن التوترات السياسية، ولكن لا ينبغي التقليل من أهمية المخاوف على هذه الطريق. ويبدو أن الألمان يشوبهم بعض الحذر بشأن الاستثمار في تركيا. وقال ألتماير خلال زيارته إن «تطبيع» العلاقات سيساعد على زيادة الاستثمارات. «التطبيع» هو الكلمة المفتاح هنا، وهو يغطي مجموعة من المفاهيم التي أراد الرجل إيصالها، أولها «السياسية».
بلغ حجم التجارة بين البلدين في 2017 نحو 36,4 مليار دولار


بداية، فقدت تركيا ثقة المستثمرين الأجانب. وأثرت المراسيم التشريعية الصادرة خلال حالة الطوارئ بعد محاولة الانقلاب بشكل كبير على عالم الأعمال، حيث استولت أنقرة على المئات من الشركات، وفي وقت من الأوقات قامت بوضع شركات ألمانية ضمن القائمة السوداء لعلاقتها المزعومة بالإرهاب. استمرت التدخلات المدمرة للثقة بعد انتهاء فترة فرض حالة الطوارئ من خلال مراسيم رئاسية أو تشريعات أخرى. ولا يزال استقلال البنك المركزي محل شك. وازداد التذمر، لكن بصوت أعلى، بعدما اعتبر الألمان أن تركيا تنتهك الاتحاد الجمركي، حيث تفرض «تعريفة تعويضية» على الرغم من الإعفاءات الجمركية الأوروبية وتحدّ من النشاط التجاري. ولتخفيف تأثير أزمة العملة، طلبت أنقرة من المصدرين تحويل 80 في المئة من إيراداتها الخارجية إلى الليرة خلال 180 يوماً من تلقي الدفع، ما أدى إلى زيادة القلق. وطالما بقيت التدابير القسرية في مكانها ولم يعد هناك إصلاح هيكلي قادم، فإن التفاؤل بشأن الاستثمار الأجنبي غير واقعي.
وفي اجتماع مع إردوغان خلال زيارته لبرلين قبل أسابيع، أدرج عمالقة الأعمال الألمان الذين يستثمرون في تركيا خمسة شروط مسبقة لاستعادة الثقة، وهي: تعزيز الأمن القانوني، ضمان عمل المؤسسات الديموقراطية، ضمان استقلال البنك المركزي واحترام قواعد الاتحاد الجمركي، بالإضافة إلى تحسين إطار العمل لاستثمارات جديدة.
ورداً على سؤال عما إذا كانت صفحة جديدة قد تحولت في العلاقات الثنائية، قال كينان مورتان، وهو خبير اقتصادي تركي بارز وباحث زائر في «EISTI ــ Paris»، لـ«الأخبار»، إنه «ليس هناك صفحة جديدة لأن الصفحة لم تكن مغلقة أبداً. إنهم يفصلون الاقتصاد عن السياسة فقط. منذ أزمة اللاجئين، اتبعت ميركل سياسة مريضة للغاية، مع التأكد من أن الصفحة ظلت مفتوحة. لا أرى إمكانية أن تؤدي الزيارة الأخيرة فجأة إلى قفزة. سيستمر الألمان في صادراتهم العادية، لكن لن تكون هناك قفزات كبيرة». وفقاً لمورتان، هناك عدة عوامل تجذب الألمان إلى تركيا: «الاقتصاد الألماني هو اقتصاد تصدير وجميع البلدان مهمة بالنسبة إليه... لن يسمحوا للقضايا السياسية بأن تسبق الاقتصاد». واستطرد: «ثانياً، الألمان يتطلعون الآن إلى مناقصات تجارية كبيرة في تركيا. هم مهتمون بالطاقة النووية والصناعات الدفاعية والسكك الحديدية»، مضيفاً «باختصار، بوش وسيمنز هما المنظمتان الرئيسيتان لزيارة وفد رجال الأعمال الألمان لتركيا، جنباً إلى جنب مع الحكومة الألمانية». وتابع مورتان: «شركة سيمنز، التي تولت جميع مشاريع السكك الحديدية في تركيا، اهتمت أخيراً بمشاريع الطاقة النووية، وبعدما غابت عن المشروع الثاني لمحطة الطاقة النووية، يمكن دعوة شركة سيمنز إلى المشروع الثالث». في الوقت نفسه، تدير بوش جميع عملياتها في الشرق الأوسط من تركيا. وقد توسعت بشكل لا يصدق في قطاع الأجهزة المنزلية من مصنعهم في منطقة تشيرقيزكوي (Çerkezköy) في شمال غرب تركيا. مع ذلك، فإن إرسال وفد كبير لا يعني استثمارات فورية. هناك انخفاض غير عادي في الاستثمارات الأجنبية وما يريدونه هو ضمانات قانونية. وأشار مورتان إلى أن الأجانب لديهم مخاوف بشأن «أمن الأرباح» في تركيا. حيث أكد أن «خطة تأميم 21 في المئة من أسهم بنك İş Bank وحدها كافية لتخويفهم». وقال إنه لا يوجد ضمان بأن هذا لن ينطبق على الشركات الأخرى أيضاً. وأردف أن المراسيم التشريعية تظهر أن أنقرة قد تلجأ إلى أسلوب «تعليق» القضايا المرتبطة بقوانين التجارة والالتزامات وإنفاذ الديون والإفلاس. بالنسبة الى مورتان، لن يكون لذوبان الجليد مع ألمانيا أي تأثير على جهود تركيا لتأمين الأموال الخارجية لتدبير ديون خارجية بقيمة 209 مليارات دولار خلال الأشهر العشرة القادمة، كما يميل البعض إلى الاعتقاد. وختم بقوله: «لا يمكن الربط بين هذه الزيارات والجهد لتأمين الأموال. إن عنوان ذلك هو بالتأكيد صندوق النقد الدولي».
في نهاية زيارته، أعرب الوزير الألماني عن أمله بحل المشكلات الثنائية «واحدة تلو الأخرى». ويبدو أن تركيا وألمانيا أعادتا احتضان شعار «عندما تصاب تركيا بالبرد، تعطس ألمانيا». هذا الشعار، في الواقع، يحكم العلاقات بين الدولتين اللتين انضمتا إلى مصيرهما معاً خلال الحرب العالمية الأولى، ثم بدت روابطهما أقل قليلاً قبل نقلها إلى مستوى جديد في عام 1961 من خلال اتفاق عمل بارز فتح أبواب ألمانيا أمام العمال المهاجرين الأتراك. صدمت برلين أنقرة من خلال تعليق قرارات بشأن ترقية دبابات «ليوبارد» التركية ــــ الألمانية الصنع، وطلبها استخدام التكنولوجيا الألمانية لصنع دبابة «ألطاي» الخاصة بها. هذه الأزمة أيضاً، يعتقد أنها عابرة، تماماً مثل المشاحنات السياسية.



تبادل تجاري كبير رغم التراجع


ينشط حوالى 7200 شركة ألمانية في تركيا، يعمل فيها نحو 120 ألف شخص. في عام 2017، بلغ حجم التجارة الثنائية بين البلدين نحو 36,4 مليار دولار. وقد كانت ألمانيا أكبر مستورد للسلع التركية، حيث بلغ إجمالي وارداتها من تركيا نحو 15,1 مليار دولار، وثاني أكبر مصدر لتركيا بقيمة 21,3 مليار دولار. وبلغت قيمة الاستثمارات الألمانية في تركيا أكثر من 9,3 مليارات دولار، وهو ما يمثل تراجعاً يعكس طبيعة المناخ السياسي بين البلدين. في عام 2017، انخفض الاستثمار السنوي الألماني إلى 295 مليون دولار كجزء من الانخفاض المستمر من 1,9 مليار دولار في عام 2013. ومن اللافت أن 4,5 مليارات يورو (5,1 مليارات دولار) تم تحويلها من تركيا إلى ألمانيا في الربعين الثاني والثالث من العام الجاري (2018)، أي في خضم الاضطراب الاقتصادي في تركيا.