يحار النائب السابق وليد جنبلاط، من أين يأتي بانتصار، يعوّض انتكاسات السنوات الماضية، المشبعة بالخسائر والرهانات الفاشلة. هي مهمّة شبه مستحيلة أيضاً للبحث عن وظيفة، إقليمية، حتى وإن كانت إعلامية، تعوّض خسارة الوزن في الساحة اللبنانية.لكن رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، الذي يدرك تماماً ضحالة تأثيره في ساحة السويداء السورية، بعد أن تكسّرت أحلامه إلى غير رجعة بسبع سنوات من الحرب على سوريا، لم يملّ الرهان على سراب زعامة إقليمية، فوق أكتاف الدروز اللبنانيين والسوريين. ولأجل ذلك، اختلق قبل أيام دوراً وهميّاً لزعامته، في تحرير مختطفي السويداء من إرهاب تنظيم «داعش»، مستعيناً هذه المرّة بـ«الأصدقاء الروس» بعد أن كان قد اتهم روسيا، غداة الاعتداء على السويداء في تموز الماضي، بتسهيل الهجوم الإرهابي.
يوم الخميس الماضي، كان النائبان تيمور جنبلاط ووائل أبو فاعور يزوران موسكو، في زيارة تقليدية للقاء نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف، برفقة القيادي الاشتراكي العتيق وصديق روسيا، حليم بو فخر الدين. وكان قد سبق تلك الزيارة، زيارة مماثلة للثنائي (راجع «الأخبار» العدد 21 آب 2018)، حملت عنوان الطلب من روسيا التدخل والمساعدة في الإفراج عن المخطوفين. نشاط دبلوماسي إعلامي «جميل»، لكنه لا يغني ولا يسمن من جوع. وحده جنبلاط من تحدّث وسوّق للعملية العسكرية الروسية الخالصة على «داعش»، متعمّداً إنكار دور الجيش السوري. لكنّ روسيا نفسها، لم تعلن قيام قواتها في سوريا بعمليّة عسكرية. ربّما أبلغ الروس جنبلاط وحده بنتائج عمليتهم، ولم تعلم بذلك وزارة الدفاع الروسية ولا الناطق الرسمي باسمها، فلم يصدر الأخير بياناً إعلامياً كما جرت العادة!
وإن كان جنبلاط الأب، ومن بعده تيمور، قد تملّقا الدور الروسي، فإن المقابلة التي أجراها رئيس الاشتراكي مع صحيفة «الجمهورية»، صباح يوم الجمعة، تؤكّد هواه الحقيقي، ولو ختم مقابلته بجملتَي شكر!
فجنبلاط، كال من المديح للأميركيين وللدور الأميركي، ما يزعج الروس حتماً، وتحديداً إصراره على أن تسليح الجيش اللبناني يجب أن يكون حصراً من الجيش الأميركي، في ظلّ رفض الجيش اللبناني الحصول على هبة من الذخائر الروسية، لا تزال تنتظر الإذن منذ أشهر، للإبحار من شواطئ روسيا إلى مرفأ بيروت. فضلاً عن أن كلام جنبلاط، منبعه ما قاله نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون بلاد الشام جويل رايبرن خلال زيارته لبيروت (راجع «الأخبار» أمس) في لقاء مع ممثلين عن الكتل النيابية، كان بينهم ممثل جنبلاط النائب فيصل الصايغ.
أزمة زعامة جنبلاط تتمدّد، ليس بفعل الظرف السياسي فحسب. فالإخفاقات والرهانات الخاطئة، ووجود دولة مثل سوريا تمنع زعامة إقطاعية مثل آل جنبلاط من التمدّد في طائفة الموحّدين الدروز خارج لبنان، حصرت زعامة العائلة في الداخل اللبناني.
كلام جنبلاط الأخير مستلهم من كلام الموفد الأميركي رايبرن

وهذا الداخل، الذي لم يطاوله الانفجار السكاني العددي الذي أصاب الجماعات المسلمة في لبنان في العقود الاخيرة، قلص من هامش دور الدروز ومنعهم من التأثير بلا رافعة إقليمية. لكنّه عاد لاحقاً وتوسّع بفضل تسوية اتفاق الطائف بالرعاية السورية، بعد أن كانت سوريا قد أهدت جنبلاط انتصاراً عسكرياً في حرب الجبل، سمح لزعامة المختارة بتقليص دور زعامة الأرسلانيين، فبدا جنبلاط ممثلاً حصرياً للدروز اللبنانيين. ومع مجيء الرئيس ميشال عون إلى سدّة الرئاسة، وسقوط المحاور الإقليمية التي احتمى جنبلاط خلفها، ازدادت أزمة الزعامة تعقيداً، وأتت الانتخابات النيابية لتكشف عجز جنبلاط عن حسم معاركه وحده في الساحة الدرزية، ولولا دعم الرئيس نبيه برّي، لكانت حصّة جنبلاط نائباً درزياً واحداً في الشوف، هو تيمور جنبلاط، وإلى جانبه الوزير السابق وئام وهّاب، مع ما يعنيه الأمر من خطورة على مسار التوريث.
وبدل أن يحاول جنبلاط العودة إلى حاضنة الدروز الإقليمية، تبدو مواقفه المكرّرة، وعداؤه المستمر لسوريا، موقفاً عبثياً في وضع الدروز اللبنانيين في مواجهة سوريا. غير أن موقف جنبلاط نفسه يبدو مقبولاً حتى بالنسبة إلى سوريا، فيما هو يحاول قطع الطرق على خيارات تيمور المستقبلية. فبدل توريث تيمور زعامة، وهو الذي يعمل بالسياسة «غصباً عنه» ونقل سكن عائلته من لبنان إلى باريس، يترك جنبلاط الأب أمام ابنه خيارات ضيّقة وأزمات مركّبة، في العلاقة مع حزب الله ومع سوريا، تضاف إلى أزمات الشركات والمصادر المالية وازدياد حاجات الدروز بما يفوق بكثير قدرة زعامة إقطاعية على التلبية.