بعدما سرت أنباء عن وساطة إسرائيلية لمحمد بن سلمان لدى إدارة دونالد ترامب، خرج بنيامين نتنياهو ليعلن أولوية الحفاظ على «استقرار السعودية». وهي أولوية تبدو حاجة أميركية أيضاً، لكن الولايات المتحدة لا ترى «ضبط سلوك» ابن سلمان منافياً لها. ومع ذلك، فإن تهديدات أنقرة تضغط بقوة على إمساك واشنطن بزمام الأمور، خصوصاً بعد تأكيد الرئيس رجب طيب أردوغان أن أمر قتل جمال خاشقجي صدر من «أعلى المستويات في الحكومة السعودية»، وتبرئته في الوقت نفسه الملك سلمان من «أي شبهة»، ما يعني اتهاماً مبطناً لولي العهد.لم تعد إسرائيل تجد حرجاً في إعلان موقفها من تطورات قضية جمال خاشقجي. محمد بن سلمان «كنز استراتيجي» تجب المحافظة عليه. تلك خلاصة المواقف الإسرائيلية الصادرة أمس بشأن القضية، بعد طول صمت بدا أقرب إلى التعاطف مع السعودية. هي إذاً شفاعة إسرائيلية واضحة لابن سلمان لدى الولايات المتحدة. شفاعة من المستبعد أن لا تلقى آذاناً صاغية لدى إدارة دونالد ترامب، لكنها لن تمنع عملية الترويض التي بدأتها الولايات المتحدة إزاء حليفتها، والتي يزيدها إلحاحاً تصاعد الضغوط التركية على الرياض وواشنطن.
وفي أول رد فعل رسمي علني على قضية خاشقجي، وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، حادثة القنصلية في اسطنبول بأنها «أمر مروّع يجب التعامل معه بشكل مناسب»، مستدركاً بأن من «المهمّ جداً في الوقت نفسه، من أجل استقرار المنطقة والعالم، أن تبقى السعودية مستقرة». وشدد، خلال مؤتمر صحافي في بلغاريا، على ضرورة «إيجاد السبيل لتحقيق هذين الهدفين، لأنني أعتقد أن المشكلة الأكبر تأتي من جانب إيران». وفي الاتجاه نفسه، كان وزير الطاقة الإسرائيلي، يوفال شتاينتز، اعتبر اغتيال خاشقجي «عملاً خسيساً يستحقّ التوبيخ»، لكنه أشار إلى «(أننا) نواجه خطراً يمكن أن يكون وجودياً»، مضيفاً أن «دولاً عربية، من بينها السعودية، حلفاؤنا في السنوات الأخيرة ضد تمدّد إيران وضد الخطر النووي الإيراني».
يتلطّى ابن سلمان مجدداً خلف «حوار الأديان» ليثبت حماسته للتطبيع


هذا الغزل الإسرائيلي بالسعودية سرعان ما تبرّع وزير خارجية البحرين، خالد بن أحمد آل خليفة، نيابة عن الرياض، لملاقاته، إذ قال، بعدما أعاد لازمته المتهافتة حول «الخلاف القائم» (مع إسرائيل)، إن«لدى السيد بنيامين نتنياهو موقفاً واضحاً لأهمية استقرار المنطقة ودور السعودية في تثبيت ذلك الاستقرار»، وكأنه يُسمِع إدارة ترامب أن ابن سلمان وملحقاته حاجة حيوية لتكريس التطبيع وطمس القضية الفلسطينية (المعنى المضمر لتعبير «استقرار المنطقة»)، وبالتالي لا بديل للأميركيين من ولي العهد السعودي وحلفائه في الخليج. رسالة تجلّت، كذلك، في اللقاء الذي جمع ابن سلمان، أمس، بوفد من رموز المسيحية الإنجيلية الأميركية، ضمّ أيضاً شخصيات مؤيدة لإسرائيل، مِن مِثل مؤسس جماعة «الصلاة في القدس» مايك إيفانز، الذي يصف نفسه بأنه «زعيم صهيوني أميركي». ويُعدّ استقبال هذا الوفد، الذي التقى أيضاً وزير الخارجية عادل الجبير والسفير السعودي لدى واشنطن خالد بن سلمان والأمين العام لـ«رابطة العالم الإسلامي» محمد العيسى، تلطّياً سعودياً متجدداً خلف لافتة «الحوار بين الأديان»، من أجل إثبات استعداد المملكة ـــ بقيادة ابن سلمان ـــ للمضيّ إلى أبعد الحدود في مشروع التطبيع.
وإذا كانت هذه النغمة كفيلة بإطراب إدارة ترامب، وحملها على تشذيب «عقابها» المتوقّع للسعودية، إلا أنها لن تحول دون المضي في عملية «ضبط السلوك» التي أطلقتها الولايات المتحدة أخيراً في تعاملها مع قيادة المملكة. وفي آخر المعلومات المتداولة بشأن تلك العملية، ذكر موقع «تاكتيكال ريبورت» الاستخباري الأميركي أن الإدارة الأميركية سلّمت، عبر وزير الخارجية مايك بومبيو وصهر الرئيس ومستشاره جاريد كوشنر، ولي العهد السعودي، قائمة مطالب تتضمّن ـــ وفقاً للموقع ـــ إصدار عفو عام عن جميع المعارضين المقيمين في الخارج، وإقالة المسؤولين المتورّطين في أنشطة أمنية ضد أولئك المعارضين، والالتزام بإبلاغ الأجهزة الأمنية الأميركية مسبقاً بأي نشاط للدبلوماسيين السعوديين في الولايات المتحدة، فضلاً عن منح أمراء الجيلين الثاني والثالث فرصة المشاركة في الحكم. وفي السياق الأخير عينه، نقلت صحيفة «ذي إندبندنت» البريطانية عن أمير سعودي ـــ قالت إنه من الجناح المعارض لابن سلمان ـــ أن العائلة الحاكمة ستجتمع في الأيام المقبلة لمناقشة الأزمة التي تمرّ بها المملكة، وأن ثمة اتجاهاً لإعادة تفعيل «هيئة البيعة» التي أنشأها الملك عبد الله عام 2006.
هذه الترتيبات، التي تدفع الولايات المتحدة في اتجاهها، تستبطن سعياً أميركياً إلى «تأديب» ولي العهد من دون إطاحته، أو الاضطرار إلى التضحية بصفقات كبرى مع المملكة قبل أن يتكشّف المسار النهائي للأمور. ولعلّ ذلك هو ما يفسّر التريّث الرسمي الأميركي في التعامل مع الأزمة، والذي تجلّى مجدداً ليل الخميس ـــ الجمعة على لسان بومبيو، الذي قال إن واشنطن تحتاج إلى بضعة أسابيع إضافية «حتى تتوفّر لها أدلة كافية لفرض عقوبات»، مؤكداً في الوقت نفسه «(أننا) سنكون قادرين على تحقيق ذلك»، وجازماً بأن الولايات المتحدة «ستضمن بقاء العلاقة الاستراتيجية العميقة والطويلة مع السعودية». لكن الضغوط التركية المتصاعدة على الرياض، والفضائح المتتالية بشأن الأكاذيب التي تضمّنتها الرواية السعودية لمقتل خاشقجي، لا تبدو في مصلحة تلك الاستراتيجية الأميركية التي يظهر واضحاً أنها تلعب أيضاً على عامل الوقت. وفي أحدث مظاهر الضغوط المذكورة، أكد مستشار الرئيس التركي، ياسين أقطاي، أن قتلة خاشقجي قاموا بإذابة جثّته، عازياً تقطيعها قبيل ذلك إلى أن التمزيق يتيح لهم «إذابتها بسهولة أكبر».