أكّدت دراسة أعدتها شركة «ايجيس» الفرنسية، بطلب من مجلس الإنماء والإعمار، وحصلت «الأخبار»، على ملخّص لها، أن دفتر شروط تلزيم المحارق المركزية الذي أقرته الحكومة اللبنانية، لا يحدد كيفية التعامل مع نحو 15 طناً من الرماد السام المتطاير الذي ستفرزه محرقة بيروت، ناهيك عن أن ترحيل هذا الرماد عملية مكلفة مادياً ومعقّدة إدارياً. ونصحت الدراسة بإجراء مزيد من الدراسات قبل اعتماد خيار الحرق. ولفتت إلى عامل مهم وحاسم في اختيار تقنية التفكك الحراري، وهو أن لا تكون نسب تلوث الهواء في الدول التي تعتمد مثل هذا الخيار فوق المعدلات المسموح بها كما هي الحال في لبنان. على رغم ذلك، يصر رئيس بلدية بيروت جمال عيتاني على «المحرقة» وفق مقولة: «عنزة ولو طارت»!مع توقع عودة أزمة النفايات إلى الظهور بوصول قدرة استيعاب مطمري الجديدة وبرج حمود إلى الذروة نهاية العام الحالي، وعلى رغم قرار توسيع مطمر كوستا برافا، تسير عملية الترويج لمحرقة بيروت على ساق واحدة.
أكثر من لقاء «شكلي» عقدته بلدية بيروت لشرح «أهمية معامل التفكك الحراري» في العاصمة وتجميل صورتها، لم تفلح في إقناع أهالي المناطق المقترح إنشاء هذه المحرقة فيها، لا سيما منطقة المدور، بجدوى هذا المشروع المكلف، ولم تقلل من المخاوف من أخطاره البيئية. آخر المحاولات كان اللقاء الأخير الذي عقد الأسبوع الماضي في أحد فنادق العاصمة، ونظّمه حزب الحوار الوطني. فقد أعاد رئيس بلدية بيروت جمال عيتاني شرح ما بات معلوماً، ومكرراً، بأن معمل التفكك الحراري المقترح في بيروت من الجيل السادس، وأن في أوروبا أكثر من 500 معمل مشابه، متحدثاً عن سلة كبيرة من المعايير والضوابط، وعن ترحيل الرماد المتطاير إلى الخارج، وعن إمكانية أن ينعم أهالي العاصمة بـ18 ميغاواط من الطاقة تنتجها نفاياتهم.
على رغم كل هذه المادة الترويجية، خرج نقيب المهندسين جاد تابت برأيه إلى العلن، للمرة الأولى ربما، ليعلن رأي اللجنة العلمية في النقابة، بالتحفظ عن هذا الخيار لاعتبارات عدة، منها نوعية النفايات المنزلية والنسبة العالية للنفايات العضوية غير الصالحة للحرق، وعدم الثقة بالتزام الشركات الغربية المطعّمة محلياً بالمعايير، كما يحصل في شركات الترابة في شكا. ورداً على تأكيدات عيتاني على الفرز، كحلقة أولى أساسية قبل الوصول إلى مصنع التفكك الحراري الذي يفترض أن يستوعب 850 طناً على الباب، طرح البعض سؤالاً جوهرياً: إذا كانت نفايات بيروت المنزلية تقدر بـ650 طناً تقريباً، وهناك إمكانية لفرز وتخمير نحو 80% منها، فلماذا المحرقة لكمية قليلة بكلفة خيالية؟
في هذا الحوار «الشكلي»، أيضاً، لم يتسن طرح ومناقشة الكثير من الأسئلة الجوهرية التي يمكن أن تنسف الفكرة من أساسها، نظراً لكثرة المتحدثين ولضيق الوقت ولمقاطعة المعارضين وتقطيع أفكارهم. من هذه الأسئلة: كيف تم اتخاذ هذا الخيار الاستراتيجي (التلزيم سيكون لـ25 سنة) من دون أن تكون هناك استراتيجية للدولة في هذا الشأن؟ وأين وزارة البيئة ووزيرها الذي أضاع نحو سنتين من دون أن ينجز الاستراتيجية المطلوبة التي على أساسها تحدد المبادئ الاستراتيجية والأولويات والأهداف والأفضليات في الخيارات وما يجب تشجيعه وما ينبغي تجنبه؟ إذ لو كانت هناك استراتيجية تتضمّن تحديداً واضحاً للمسؤوليات والأدوار المركزية وغير المركزية، لما حصلت كل هذه السجالات والصراعات التي لا تخلو من مصالح.
ليس عيباً أن يكون هناك خبراء مرتبطون باستثمارات، وأصحاب مصالح، صغيرة كانت (كبيع الكرتون) أو كبيرة (كالاستثمار في محرقة)، وأن يكون هناك تنافس على النفايات كمورد. ومن الطبيعي أن يكون هناك أصحاب عقول صناعية أو تجارية أو جمعياتية تتنافس على المورد نفسه... لكن السؤال المركزي: أين عقل الدولة التي يفترض أن تحدد أفضل السبل لحماية الموارد وديمومتها، والصيغة الأقرب إلى دورة الحياة الطبيعية للمنتجات، والتي على أساسها يتم تقييم الخيارات والتقنيات، وليس على أساس من هو الأقوى في السوق أو في دفع العمولات لتمرير المشاريع؟
السؤال عن المصالح وتمرير المشاريع يصبح مشروعاً أكثر في ضوء ما تسرب عن دراسة أعدتها شركة «ايجيس» الفرنسية، بطلب من مجلس الإنماء والإعمار، لدرس دفتر شروط تلزيم المحارق المركزية الذي أقرته الحكومة اللبنانية. وعلى رغم التكتم الشديد الذي يحيط بالدراسة، بحجة أن رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري لم يطلع عليها بعد، حصلت «الأخبار» على ملخصات عن فصولها الـ6 ركزت على سؤال الحكومة حول كيفية تعاملها مع الرماد السامّ المتطاير من معامل التفكك الحراري. ففي وقت يستسهل عيتاني الادعاء بأن دفاتر شروط محرقة بيروت تلزم المتعهد بترحيل هذه المادة الخطرة التي تقدر بأكثر من 2% من حجم النفايات إلى خارج لبنان، لا يحدد دفتر الشروط كيف يفترض بالمتعهد والمشغل التعامل مع الرماد. كما يبدو أن «الريّس» لم يطّلع على تقييم دفاتر المعامل المركزية التي تؤكّد أن كلفة معالجة الرماد المتطاير في فرنسا تراوح بين 40 و80 يورو على الطن الواحد، من دون احتساب كلفة ترحيل 15 طناً من الرماد يفترض أن تنتجها محرقة بيروت يومياً. هذا إذا وجدنا بلداناً تقبل باستقبال هذا النوع من النفايات، ناهيك عن الإجراءات المعقدة للنقل والشحن (خارج الحدود) التي تمليها اتفاقية بازل والتي تتطلب موافقات سنوية وليس لمدة عقد تشغيل المحرقة (25 سنة)!
لا يحدد دفتر الشروط كيف يفترض بالمتعهد والمشغل التعامل مع الرماد السام المتطاير من المحرقة


وفي فصل خاص من التقرير، تنصح الشركة الفرنسية بإجراء دراسات تقنية واجتماعية قبل تحديد المكان، والحوار مع المجتمع المحيط والحصول على موافقته. كما تنصح بإجراء مزيد من الدراسات تتطلب ما لا يقل عن سنتين قبل اعتماد خيار الحرق، تتعلق بضرورة وجود مخطط توجيهي للإدارة، ودراسة خاصة بالموقع، وأخرى تتعلق بالأثر البيئي والاجتماعي، وثالثة للتخلص من رماد القاع ومن الرماد المتطاير. وتلفت الدراسة إلى عامل مهم وحاسم في اختيار تقنية التفكك الحراري، وهو أن لا تكون نسب تلوث الهواء في المدن التي تعتمد مثل هذا الخيار فوق المعدلات (كما هي الحال في لبنان) ودراسة نوعية النفايات ونسبة العضوي منها، وهي أيضاً مرتفعة في لبنان. علماً أن البلدان الأوروبية التي يتبجح رئيس بلدية بيروت باعتمادها خيار المحارق، تراجع معاييرها وخياراتها في هذا المجال وتتجه لأن تكون أكثر تشدداً، وأكثر احتراماً للهرم العالمي في المعالجة الذي يقوم أولاً على التخفيف والفرز... على أن يأتي الحرق في أسفل الخيارات.
وإذ علينا انتظار تشكيل الحكومة الجديدة ومعرفة هوية وزير البيئة الجديد لمعرفة الاتجاهات الاستراتيجية في هذا الملف، مع التمني بأن لا نعود إلى الخطأ نفسه في استسهال اختيار وزير للبيئة غير ملمّ ينهي ولايته بتغليب الكيدية السياسية على مصالح البيئة العليا (بعزل مدير محمية)، يمكن لبلدية بيروت أن تستمر بالسير في ملف المحرقة الخاصة بها، كما يحب أن يوحي رئيسها، إنما على رجل واحدة (من دون المجتمع في خيارها) إلى حين شعورها بالخدر... والعودة إلى الأرض حتماً.