لندن | خروج اليونان رسميّاً من المرحلة الثالثة والأخيرة من برنامج الإنقاذ المالي الدولي، الذي يحاول الاتحاد الأوروبي والحكومة اليونانيّة تصويره كأنه نجاح يستحق أن يحتفى به، ما هو إلا إعلان استقلال شكلي لا يغيّر شيئاً في حياة المواطنين اليونانيين الذين قاسوا طوال عقد أحد أسوأ برنامج تقشف عرفته أوروبا في تاريخها، بينما ستبقى البلاد تحت رقابة الدائنين وسياساتهم التقشفيّة حتى عام 2060 على الأقل. أعلن الاتحاد الأوروبيّ، منتصف ليل يوم الإثنين الماضي، خروج اليونان رسميّاً من المرحلة الثالثة والأخيرة لبرنامج الإنقاذ المالي الدولي الثالث، وذلك بعد ثماني سنوات من الخضوع المباشر لـ«ترويكا» الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي في إدارة شؤون البلاد الماليّة، ضمن «مساع» لمساعدتها على تجاوز أزمتها المالية التي كانت تفاقمت منذ بداية العقد الحالي. وكما كان متوقعاً، فإن عرّابي «الترويكا» سارعوا إلى الاحتفال بالخطوة الرمزيّة كأنها إنجاز عظيم لليونانيين. رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي، دونالد تاسك، غرّد على تويتر: «لقد فعلتموها. أهنّئ اليونان وشعبها على انتهاء برنامج الإنقاذ المالي. بجهودكم العظيمة وبالتضامن الأوروبي معكم حققتم هذا الإنجاز». وقال مفوّض الشؤون الاقتصادية الأوروبي، بيير موسكوفيتشي، «لقد طوت اليونان صفحة الأزمة التي طالت. الأسوأ أصبح خلفنا الآن»، معتبراً في بيان له أن ذلك يمثل نهاية أزمة «وجودية» لكتلة اليورو، بينما انتظر رئيس الوزراء اليوناني، وزعيم تحالف «سيريزا» اليساري الذي يحكم البلاد منذ 2015، أليكسيس تسيبراس، يوماً كاملاً قبل أن يطل على مواطنيه في خطاب تلفزيوني ليعلن أن اليونان «استعادت حق تقرير مصير ثروتها ومستقبلها بنفسها»، واصفاً المناسبة بأنها «يوم تحرير». وألقى خطابه من جزيرة إيثاكا كدلالة رمزية على انتهاء مرحلة تحديات ومحن تماثل تلك التي واجهها الإغريق خلال أوديسة يوليسيس، بطل ملحمة هوميروس، في رحلته للعودة إلى الجزيرة وفق الأسطورة التاريخيّة، في حين كان محافظ البنك المركزي اليوناني، يانييس ستورناراس، أكثر تواضعاً فتحدث عن «استمرار سياسة التقشف إلى أبعد ما يمكن أن تراه العين»، وأنّه لا تزال أمام اليونان «رحلة طويلة صعبة».
لكن الواقع يقول إنّ هذه الأجواء الاحتفاليّة لا تخفي حقيقة أن اليونان ستحتاج حتى عام 2060 على الأقل قبل أن تسدد التزاماتها الماليّة التي تجاوزت اليوم حاجز الـ350 مليار يورو، وأن كافة أموال القروض التي منحت لها خلال فترة الانتداب الأوروبي المباشر أُنفقت على تسديد ديون معلقة للبنوك الأوروبيّة ولم يصل منها شيء للمواطنين. فكل ما في الأمر أنّه سيسمح لليونان الآن بمخاطبة البنوك التجاريّة لتمويل قروضها مباشرة بدلاً من الاعتماد على الاتحاد الأوروبي، بينما سيكتفي الأخير بإرسال مفتشيه إلى أثينا كل ثلاثة أشهر للتأكد من استمرار الحكومة في سياسة التقشف وتسديد التزامات الدائنين وفق تعهدها للاتحاد بتحقيق فائض ميزانيّة سنوي بعد تحويل أيّ دفعات للديون، وإلى حين تسوية 75% من الالتزامات كحد أدنى.
لا تاسك ولا تسيبراس أوضحا أن فائض الميزانيّة السنوي الموعود هذا لـ 42 عاماً مقبلة سيكون حتماً على حساب المواطنين العاديين الذين عاشوا لعقد كامل ضحيّة لواحد من أسوأ برامج التقشف الحكومي في تاريخ أوروبا، ودفعوا أثماناً هائلة من مداخيلهم وحسابات تقاعدهم ومستوى معيشتهم، وحتى صحتّهم، من دون أن يكون لهم ذنب في بناء المديونيّة الهائلة التي ترزح تحتها البلاد بسبب فساد الطبقة الأوليغارشية الحاكمة المتراكم وجشع البنوك الأوروبيّة الكبرى.
الأجواء الاحتفاليّة لا تخفي أن اليونان ستحتاج حتى عام 2060 قبل أن تسدد التزاماتها الماليّة


لقد تراجع الإنفاق الحكومي على المستشفيات العامة إلى مستوى يقل بخمسين في المئة عمّا كان عليه بداية الأزمة، وقلّصت رواتب التقاعد لأكثر من نصف اليونانيين إلى ما دون خط الفقر، وسيخسر النصف الثاني منهم ما يقارب 400 دولار شهرياً بدءاً من كانون الثاني/ يناير 2019. ويتوافق ذلك مع مستويات قياسيّة من البطالة (20% على الأقل وترتفع بين الشبّان أقل من 25 عاماً إلى 45%)، بينما يعمل أكثر من مليون يوناني من أصل 11 مليوناً يسكنون البلاد في وظائف موقتة وتحت الطلب من دون أيّ ضمانات، في حين يتلقى المحظوظون الذين لديهم وظائف دائمة رواتب أقل بـ23% مقارنة بمعدل رواتبهم قبل ثماني سنوات. وهناك تقارير عن أن نصف مليون يوناني على الأقل يعتمدون لتناول وجباتهم اليوميّة على المطابخ الخيرية، بينما ترك نصف مليون بلادهم نهائياً وانتقلوا إلى دول أخرى في الاتحاد الأوروبي أو إلى الولايات المتحدة. هذا كله يوازيه ارتفاع حاد في إيجارات الشقق في أثينا والمدن السياحيّة بعد تدفق السّياح إلى البلاد للاستفادة من العروض التنافسيّة التي أُضطرّت صناعة السياحة إلى تقديمها وبتشجيع من الحكومة. وقد اعتبر أغلب اليونانيين أن مأساة حرائق الغابات الأخيرة التي قضى فيها العشرات هي نتاج لسنوات من تقليل فضائحي للإنفاق على الخدمات العامّة.
هذه التراجيديا اليونانيّة بامتياز يتولى تنفيذها ـــ منذ 2015 ـــ تسيبراس ورفاقه في حزب «سيريزا» الذي انتخبه اليونانيون في آخر انتخابات عامة في البلاد على أساس برنامج لتحدي هيمنة الاتحاد الأوروبي على الشأن اليوناني، قبل أن ينقلب على ناخبيه ويسلّم مقاليد البلاد ومقدراتها للنيوليبراليّة الأوروبيّة، ولم يعبأ بنتيجة الاستفتاء الذي أجرته الحكومة قبل مصادقتها على الاتفاق مع الترويكا، والذي منحها دعماً استثنائيّاً لرفض إملاءات بروكسل.
تسيبراس تسبّب في أضرار قد لا يمكن تجاوزها للتيار السياسي اليساري في البلاد، وليس هناك أوهام لدى أحد بأن الانتخابات العامة المقبلة في تشرين الأول/ أكتوبر 2019 ستطيح حكومته وتعيد تسليمها من جديد لقوى اليمين في البلاد، حيث يتقدّم حزب «الديمقراطيّة الجديدة» بأكثر من 10 نقاط في آخر استطلاعات للرأي، بل إنّ هناك من يطالب بتقديم موعد الانتخابات لأن «سيريزا» لم يعد يمتلك الشرعيّة الشعبيّة للاستمرار في تولي السلطة لعام مقبل. وهو سيناريو محتمل، إذ إن تلميحات بروكسل تشير إلى أنّها تفضّل توكيل مهمة إدارة البلاد نيابة عن الترويكا إلى حكومة وحدة وطنيّة لضمان استقرار طويل المدى بدلاً من الصراع الحاد الجاري الآن بين الفرقاء السياسيين في البلاد، وربما لإغلاق الفرصة أمام عودة تيار وزير المالية اليساري السابق يانييس فاروفاكيس الذي رفض «خيانة» تسيبراس وطاقمه لآمال الشعب، فاستقال من منصبه احتجاجاً وترك «سيريزا» لينشئ حزباً معارضاً للسلطة الحاليّة.
وبينما يتباهي تاسك بتضامن الأوروبيين مع اليونان، فإن خبراء يعتقدون أن انضمام اليونان إلى فضاء العملة الأوروبيّة اليورو عام 2000 كان نقطة البداية لمسار انحدار الاقتصاد اليوناني والحالة البائسة التي انتهت إليها الطبقة العاملة في البلاد، إذ تراجع مستوى الدّخل الحقيقي للمواطنين أكثر من الثلث خلال ثماني سنوات قبل الأزمة الماليّة العالميّة.
ستدخل هذه الفترة السوداء من التاريخ اليوناني بوصفها مرحلة استعمار أوروبي صلف جرّدت فيها البلاد من أصولها، وخصخصت مؤسساتها، وخسر خلالها المواطنون كل امتياز كان عندهم في التعليم والصحة والنقل العام والتقاعد، وتعرضوا لهجمة غير مسبوقة من الإفقار والإفلاسات والبطالة والتهجير واليأس، وأن ما سمّي خطة الإنقاذ الماليّ الدوليّة لم يكن في الواقع سوى احتيالٍ على اليونانيين (ودافعي الضرائب الأوروبيين أيضاً) الذين انتهوا إلى دفع مليارات من فقرائهم لمصلحة نخب فاسدة وبنوك متواطئة. أوديسة الشعب اليوناني بدأت قبل عقد ربما، لكن الوصول إلى إيثاكا لن يكون ممكناً ربما في القرن الحالي، مهما تظاهر تسيبراس عكس ذلك.