قد تختلف مع الاعلامي داود الشريان في مسألة، وتتفق معه في أخرى. لكن الأمانة تقتضي الاعتراف بأنّه أحد الأكثر إثارة للجدل بين الاعلاميين الخليجيين، والسعوديين تحديداً. كثيرة هي المعارك التي خاضها خلال السنوات الطويلة الماضية، في الصحافة المكتوبة، وفي الاعلام المرئي، من أجل مجتمع أكثر انفتاحاً وانسانيّة. ولم يتوانَ عن النقد حين كان آخرون يغرقون في مستنقع المدائح واللغو والانشاء الفارغ.
صحيح أنّه لم يكن يوماً من الخوارج، بل بقي يعبّر عن خطاب قريب من السلطة، أو خطاب يتعايش مع السلطة. بقي أحد الأبناء المدللين للمؤسسة الرسميّة في النهاية، وفي كل الأحوال حائزاً رضاها بشكل من الأشكال. لكن كان عليه أن يتعامل مع الواقع بتعقيداته، وعرف مراحل صعبة أيضاً. ودفع مراراً ثمن مواقف أخلاقيّة ومبدئيّة يمكن أن نصفها بالشجاعة. كل ذلك يجعل الشريان اعلاميّاً إشكاليّاً، يستحق الاهتمام والنقاش والمتابعة. كل ذلك يدفعنا إلى الرهان عليه كأحد الأصوات التي تعطي لهذه المهنة معناها، في مجتمع يقف عند مفترق تاريخي، ويتهيّأ لتحوّلات جذرية يأمل العرب جميعاً أن تكون نحو الأفضل، نحو الديمقراطية والعدالة والعقلانية والتقدّم والوحدة الوطنية.
من الطبيعي والحالة تلك، ألا نتفاجأ تماماً، ونحن نشاهده على شاشة mbc1 ليلة أول من أمس، في «الثامنة» برنامجه الذي يحقق نسبة إقبال عالية في السعودية تحديداً، ينفجر غضباً بوجه «أبطال التويتر»، تجّار الدين والفتنة الذين يدعون إلى «الجهاد» في سوريا. لقد أثارت حلقة الشريان ردود فعل صاخبة في الاعلام التقليدي، والاعلام البديل، ووسائل التواصل الاجتماعي، بعدما قرّر صاحبنا تسمية الأشياء بأسمائها، مسلّطاً الضوء على هؤلاء الضحايا المغرّر بهم ليكونوا وقوداً في حرب أهليّة شرسة، الجميع فيها خاسر في المصاف الأخير. لقد شنّ هجوماً حاداً على عدد من المشايخ والدعاة، وسمّى الدكتور سلمان العودة والدكتور محمد العريفي والشيخ سعد البريك والشيخ عدنان العرعور والشيخ محسن العواجي، متهماً إيّاهم بالتغرير بالشباب السعودي وإرساله إلى الموت «في حروب كافرة لا نعرف من الذي بدأها ومن الذي أنهاها». انتهرهم وعيناه تقدحان شرراً: «روحوا أنتم للجنة أول، واحنا نلحقكم». قبل أن يضيف موجّهاً سبابته إلى الكاميرا علامة التحدّي: «المجتمع لازم يحاسبكم، المجتمع لازم يسائلكم، أنتم من غررتم بأولادنا (…) أفلتّم من العقاب في أفغانستان، وأفلتّم في العراق، في سوريا المفروض ألا تفلتوا».
حلقة تلفزيونيّة كانت كافية لقلب المعادلة. لقد قرع الشريان الجرس، وكرّس خطاباً وموقفاً جديدين من الحرب الأهليّة الطاحنة في سوريا، فإذا بها تنقلب، بسحر ساحر، من «ثورة» إلى «فتنة»، وباتت تقارن بأفغانستان والعراق، فيما الأمير بندر خالدٌ إلى نقاهته الطويلة. وها هم «شيوخ الفتنة» يجدون أنفسهم في موقع دفاعي، ويبررون أنفسهم، واحداً تلو الآخر في غضون الـ 24 ساعة الماضية، مهدّدين الاعلامي المعروف بالملاحقة القضائية، متهمين إيّاه بخدمة مصالح «الصفويين وحزب الشيطان». الجهاد في سوريا أمر بغيض إذاً؟ ها هي الآلة الاعلامية الضخمة تلعب لعبتها، من خلال برنامج ناجح يتحلّق حوله المواطنون، لتعلن (تكرّس رسميّاً) لحظة تحوّل حاسمة في وعي الرأي العام السعودي. لا يكاد يمضي يوم في الآونة الأخيرة، إلا ونقرأ مقالة أو نشاهد تحقيقاً في الاعلام الغربي (الفرنسي تحديداً)، يكتشف ــ متأخّراً جدّاً ــ «ابناءنا الذين استدرجوا إلى الجحيم السوري». والآن جاء دور الاعلام السعودي. من السذاجة ألا نلاحظ أن غضب الشريان المشروع، يصادف مع لحظة فشل المشروع الاسلامي الذي تمخّص عنه الربيع المسروق، وتحوّل قطر، وتعثّر تركيا، وتراجع الغرب الاستعماري، وتخبّط السعودية في مأزقها العبثي بسبب الخيار الانتحاري لاتجاه محدد داخل العائلة المالكة. الآن جاء وقت جردات الحساب، وقد بدأها داود الشريان بصخب ومهارة.


*لمشاهدة حلقة «الثامنة» أنقر هنا

يمكنكم متابعة بيار أبي صعب عبر تويتر | PierreABISAAB@